المنشورات

خبر الجعدين:

حماد الراوية قال: أتيت مكة، فجلست في حلقة منها فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي، وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر بن أبي ربيعة، أحدّثكم عن بعض ذلك.
كان لي خليل من عذرة، [يقال له الجعد بن مهجع، و] يكنى أبا مسهر وكان مشتهرا بأحاديث النساء، يشبّب بهن وينشد فيهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا حديث السلوة؛ وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار، واستوقفت له السّفّارة «1» .
وإنه غاب عني ذات سنة خبره، حتى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، فإذا رجل يتنفس الصعداء؛ فقال: عن أبي مسهر تسأل؟ قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح واللَّه أبو مسهر لا حيّا يرجى، ولا ميتا ينسى، ولكنه كما قال الشاعر:
لعمرك ما هذا الغرام بتاركي ... صحيحا ولا أقضي به فأموت
فقلت: وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من انهما ككما في الضلال، وجرّكما أذيال الخسران، كأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار! قلت: ما أنت منه يابن أخي؟ قال:
أخوه. قلت: واللَّه [ما يمنعك أن تسلك مسلكه الذي سلك إلا] أنك وأخاك كالوشي والبجاد «2» ، لا يرقعك ولا ترقعه! ثم انطلقت وأنا أقول:
أرائحة حجّاج عذرة روحة ... ولما يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أي خطب أصابه ... فلي زفرات هجن ما بين أضلع
فلا يبعدنك اللَّه خلا فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي
قال: فلما حججت ووقفت بعرفات، إذا به قد أقبل، وقد تغير لونه وساءت هيئته، وما عرفته إلا بناقته؛ فأقبل [فأدنى ناقته من ناقتي] حتى خالف بين أعناقهما، ثم اعتنقني وجعل يبكي، فقلت له: ما الذي دهاك؟ قال: برح الخفاء وكشف الغطاء ثم أنشد يقول:
لئن كانت عديلة ذات مطل ... لقد علمت بأنّ الحبّ داء «1»
[ألم تنظر إلى تغيير جمسي ... وأنّي لا يفارقني البكاء]
وإنك لو تكلفت الذي بي ... لزال السّتر وانكشف الغطاء
وإن معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصّبابة واللقاء
إذا العذريّ مات بحتف أنف ... فذاك العبد تحكيه الرّشاء
فقلت: يا أبا مسهر، إنها ساعة عظيمة، تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت اللَّه كنت قمنا أن تظفر بحاجتك، وتنصر على عدوّك فجعل يدعو، حتى إذا مالت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينم بشيء، فأصغيت مسمعا، فجعل يقول:
يا ربّ كلّ غدوة وروحه ... من محرم يشكو الصّبا ونوحه «2»
أنت حسيب الخلق يوم الدوحه
فقلت له وما يوم الدوحة؟ قال: سأخبرك إن شاء اللَّه، ولو لم تسلني. فيممنا نحو المزدلفة، فأقبل عليّ وقال: إني رجل ذو مال كثير، من نعم وشاء، وإني خشيت على مالي عام أوّل التلف، فأتيت أخوالي كلبا، فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمة البئر «1» ، وكنت منهم في خير أخوال؛ ثم إني عزمت على مواقعة إبلي بماء لهم يقال له الحوادث؛ فركبت يوما فرسي، وعلقت معي شرابا أهداه إلي بعض الكلبيين، فانطلقت؛ حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروّحت مبردا! ففعلت، فشددت فرسي ببعض أغصانها، ثم جلست تحتها، فإذا بغبار [قد] سطع من ناحية الحي، ثم تبينت، فبدت لي شخوص ثلاثة، فإذا فارس يطرد مسحلا «2» وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء؛ فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه، ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل «3»
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت، فثنى رجله ونزل وشدّ فرسه ببعض أغصان الشجرة؛ ثم أقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول الشاعر:
وإنّ حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل «4»
فبينا هو كذلك، إذ نكت بالسوق على ثنيتيه، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط وقلت: مه! فقال: ولم؟ قلت: إني خائف أن تكسرها؛ إنهما رقيقتان عذبتان.
قال: فرفع عقيرته وجعل يقول:
إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجر
وقال: ما هذا الذي جعلت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إليّ بعض أهلك.
فهل لك فيه؟ قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به، فوضعته بيني وبينه، فلما شرب منه شيئا نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها؛ ثم رفع عقيرته يتغنى:
إنّ العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا الّلبّ حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق اللَّه إنسانا
ثم قمت لأصلح من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه؛ وإذا غلام كأنّ وجهه دينار هرقلي، فقلت: سبحانك اللهم! ما أعظم قدرتك! قال: فكيف؟
قلت: ذلك مما راعني من نورك، وبهرني من جمالك! قال: وما الذي يروعك من زرق العيون وحبيس التراب، ثم لا تدري أينعم بعدك أم يبأس؟ قلت: لا يصنع اللَّه بك إلا خيرا.
ثم قام إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حقّ «1» عاج، قلت: نشدتك اللَّه، امرأة أنت؟ قالت: إي واللَّه، وتكره العهر، وتحب الغزل! قلت: وأنا واللَّه كذلك! فجلست واللَّه تحدثني ما أنكر من أمرها شيئا، حتى مالت على الدوحة سكرى؛ فاستحسنت واللَّه يا ابن أبي ربيعة الغدر، وزيّن في عيني؛ ثم إن اللَّه عصمني؛ فما لبثت أن انتبهت مذعورة، فلاثت عمامتها برأسها، وأخذت الرمح، وجالت في متن فرسها؛ فقلت: مضيت ولم تزوّديني منك زادا! فأعطتني بنانها فشممت واللَّه منها كالنبات الممطور زهر «2» الثلج؛ ثم قلت: أين الموعد؟ قالت: إن لي إخوة شرسا «3» وأبا غيورا، واللَّه لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك! ثم مضت فكان واللَّه آخر العهد بها إلى يومي هذا، وهي التي بلّغتني هذا المبلغ وأحلّتني هذا المحل! قال: فدخلتني له رقّة؛ فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشدّ على ناقته، وحملت غلاما لي على بعير، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينار، ومطرف «1» خزّ؛ ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب، فإذا الشيخ في نادي الحيّ، فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام، من أنت؟ فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: المعروف غير المنكور، فما الذي جاء بك؟ قلت:
جئتك خاطبا، قال: أنت الكفء لا يرغب عن وصله، والرجل الذي لا يردّ عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة، ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: واللَّه إنه لكفء الحسب، كريم النسب؛ غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش.
قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي؛ فقال: أما إني أصنع في ذلك ما لم أصنعه قط لغيرك؛ أخيّرها في نفسها، فهي وما اختارت. فقلت: خيّرها. فأرسل إليها:
إن من الأمر كذا وكذا، فالرأي رأيك.
فقالت: ما كنت لأستبدّ برأي دون رأي القرشي، خياري ما اختار. قال: قد ردّت الأمر إليك. فحمدت اللَّه وصليت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقلت: قد زوجتها العذريّ [الجعد بن] مهجع. وأصدقتها عنه الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبّة، وكسوت الشيخ المطرف، فسرّ به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك؛ فضربت القبة في وسط الحيّ، وأهديت إليه ليلا، وبت عند الشيخ في خبر مبيت، فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة، فخرج إليّ وقد تبين الجذل فيه، فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر؟ قال: أبدت لي كثيرا مما كانت تخفيه يوم رأيتها. فقلت: أقم عند أهلك بارك اللَّه لك! ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول:
كفيت الفتى العذريّ ما كان نابه ... ومثلي لأثقال النّوائب يحمل «2»
أما استحسنت منّي المكارم والعلا ... إذا صرّحت أنّي أقول وأفعل











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید