المنشورات

زواج المأمون ببوران

حدث أبو محمد الشعبي الورّاق- وكان عند باب خراسان عند باب الجسر الأول- عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي، قال:
بينا أنا ذات يوم عند المأمون وقد خلا وجهه وطابت نفسه، إذ قال لي: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيّب اللَّه عيش أمير المؤمنين، ودام سروره وفرحه! فقال: يا غلمان، خذوا علينا الباب وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجلس غير المجالس التي كنا فيها، وإذا قد نصبت الموائد، وأصلح ما كان يحتاج إليه الحال، حتى كأنه شيء قد كان تقدّم فيه؛ قال: فأكلنا وأخذنا في الشراب، فأقبلت السّتيرات «1» من كل ناحية بضروب من الغناء وصنوف من اللهو؛ فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار.
فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحق، خير أيام الفتى أيام الطرب! قلت: هو واللَّه ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني فكّرت في شيء فهل لك فيه؟ قلت: لا أتأخر عن رأي أمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه! قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه، وقد عزمت على دخلة إلى الحرم، فكن بمكانك ولا ترم «2» ، فإني أوافيك عن قريب.
قلت: السمع والطاعة. ثم نهض إلى دار السلام، فما عرف له خبر إلى أن ذهب من الليل عامّته.
قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق اللَّه بالنساء، وأشدّهم ميلا إليهن واستهتارا بهنّ، وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه، وأنهن قد أنسينه أمري وما كان تقدم إليّ ووعدني من رجوعه، فقلت في نفسي: هو في لذته وأنا ههنا في غير شيء، وفيّ بقية، وعندي صبية كنت قد اشتريتها؛ ونفسي متطلعة إلى افتضاضها. فقمت مسرعا عند ذكرها، فقال الخدم: على أيّ عزمت وإلى أين تريد؟ قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين؟ قلت هو في سروره قد شغله الطرب.
ولذة ما هو فيه عن طلبي، وقد كان بيني وبينه موعد قد جاز وقته، ولا وجه لجلوسي.
قال: وكنت مقدّم الأمر في دار المأمون، مقبول القول فيه، لا أعارض في شيء، إذا أو مأت إليه؛ فخرجت مبادرا إلى باب الدار، فلقيني غلمان الدار وأصحاب النوبة «1» ، فقالوا: إن غلمانك قد انصرفوا، وكانوا قد جاءوك بدابة، فلما علموا بمبيتك انصرفوا. فقلت: لا ضير، أنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة؟ قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل؟
قلت: لا، ولا أريد أيضا.
وأقبلت نحو البيت، حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحرقة البول، فعدلت إلى بعض الأزقة، لئلا يجوز أحد من العوام فيراني أبول على الطريق؛ فبلت، حتى إذا قمت إلى المسح ببعض الحيطان، إذا بشيء معلق من تلك الدار إلى الزقاق، فما تمالكت أن تمسّحت، ثم دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو، فإذا بزنبيل «2» كبير معلق بأربعة مقابض، ملبس ديباجا «3» ، وفيه أربعة أحبل ابريسم، فلما نظرت إليه وتبينته قلت: واللَّه إن لهذا لسببا، وإن له لأمرا. فأقمت ساعة أتروّى في أمري وأفكر فيه، حتى إذا طال ذلك بي قلت: واللَّه لأتجاسرنّ ولأجلسنّ فيه كائنا ما كان ...
ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل، فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله، جذبوا الزنبيل إليهم حتى انتهوا إلى رأس الحائط، فإذا بأربع جوار، فقلن: انزل بالرحب والسعة، أصديق أم جديد؟ فقلت: لا، بل جديد! فقلن: يا جارية، هاتي الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة، وأقبلت بين يديّ، حتى نزلت إلى دار نظيفة، فها من الحسن والظّرف ما حرت له، ثم أدخلتني إلى مجالس مفروشة، ومناصّ «1» مرصوصة، [فيها من] صنوف الفرش ما لم أر مثله إلا في دار الخليفة.
فجلست في أدنى مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ذلك إلا بضجة وجلبة، وستور قد رفعت في ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتسابقن في أيدي بعضهنّ الشمع، وبعضهنّ المجامر يبخرن فيها العود والندّ؛ وبينهن جارية كأنها تمثال عاج، تتهادى بينهن كالبدر الطالع، بقدّ يزري على الغصون؛ فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت، فقالت: مرحبا بك من زائر أتى وليست تلك عادته. وجلست، ورفعت مجلسي عن الموضع الذي كنت فيه، فقالت: كيف كان ذا واللَّه لي ولك، ولا علم كان وقع إليّ؛ فما السبب؟ قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني، وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق، وأخذني البول فأخذت إلى هذا الطريق، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلا معلقا، فحملني النبيذ فجلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، وإن كان صوابا فاللَّه ألهمنيه قالت: لا ضير إن شاء اللَّه، وأرجو أن تحمد عواقب أمرك؛ فما صناعتك؟ قلت: بزّاز «2» . قالت: وأين مولدك؟ قلت: بغداد. قالت: ومن أيّ الناس أنت؟ قلت: من أماثلهم وأوساطهم.
قالت: حيّاك اللَّه وقرّب دارك! ... قالت: فهل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت:
شيئا يسيرا. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت قلت: جعلت فداك. إن للداخل دهشة، وفيّ انقباض؛ ولكن تبتدئين بشيء من ذلك، فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت:
لعمري لقد صدقت، فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا ... ؟
ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء، القدماء والمحدثين، من أحسن أشعارهم، وأجود أقاويلهم، وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب، من ضبطها، أم من حسن لفظها، أم من حسن أدبها، أم من حسن [روايتها و] جودة ضبطها للغريب، أم من اقتدارها على النحو ومعرفة أوزان الشعر؟ ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة «1» . فقلت: إن شاء اللَّه لقد كان ذلك.
قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل.
قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء؛ فاستحسنت نشيدي وأقبلت تسألني عن أشياء في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مصغية إليّ، ومستحسنة لما آتى به؛ حتى أتيت على ما فيه مقنع؛ قالت: واللَّه ما قصّرت ولا توهمت في عوام التجار وأبناء السوقة مثل ما معك؛ فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت أيضا في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا حينا حتى قدّمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائب الطعام السري؛ فقالت: إن الممالجة أول الرضاع، فتقدمت، فأقبلت أعذّر بعض التعذير، وهي معي تقطع وتضع بين يديّ، وأنا أغتنم ما أرى من ظرفها وحسن أدبها، حتى رفعت المائدة.
وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يديّ صينية وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد إلا لوليّ عهد أو سلطان، وقد عبّيء أحسن تعبئة، وهيّيء أحسن تهيئة. قال إسحاق: فتثاقلت عن الشراب لتكون هي المبتدئة، فقالت: مالي أراك متوقفا عن الشراب؟ قلت: انتظارا لك، جعلت فداك! فسكبت قدحا آخر فشربت.
ثم قالت: هذا أوان المذاكرة، فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري إن هذا لمن أوقاته. فاندفعت، فقلت: بلغني أنه كذا وكذا ... وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان ... وكان من قصته كذا وكذا ... ، حتى مررت بعدة أخبار حسان من أخبار الملوك، وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة؛ فسرّت بذلك سرورا شديدا، ثم قالت: واللَّه لقد حدّثتني بأحاديث حسان، ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذا من أحاديث الملوك، وما لا يتحدّث به إلا عند ملك أو خليفة. فقلت:
جعلت فداك، كان لي جار ينادم بعض الملوك، وكان حسن المعرفة كثير الحفظ؛ فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه؛ لشغل يمنعه من ذلك، أو لأمر يقطع، فأمضى إليه، وأعزم عليه، وأصيّره إلى منزلي؛ فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئا، إلى أن صرت من خاصة أخدانه وممن كان لا يفارقه؛ فما سمعت مني فمنه أخذته، وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيدة وطبع كريم. قال إسحاق:
وأخذنا في الشراب والمذاكرة: أبتديء الحديث، فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر، حتى قطعنا بذلك عامة الليل، والندّ «1» وفائق البخور يجدّد، وأنا في حالة لو توهمها المأمون أو تأملها لاستطار سرورا وفرحا.
ثم قالت لي: يا فلان- وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي- واللَّه إني لأراك كاملا، وإنك في الرجال لفاضل، وإنك لوضيء الوجه، مليح الشكل، بارع الأدب؛ وما بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برّزت وبرعت. فقلت: وما هو يا سيدتي، دفع اللَّه الأسواء عنك؟ قالت: لو كنت تحرّك بعض الملاهي، أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: واللَّه [إني كنت] قديما أشتهيه، وطالما كلفت به وحرصت عليه، فلم أرزقه ولا يعلق بي شيء منه؛ فلما طال عنائي به، وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب، تركته وأعرضت عنه، وإن في قلبي من ذلك لحرقة، وإني لمستهتر به مائل إليه، وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيّده شيئا؛ لتكمل ليلتي ويطيب عيشي! قالت: كأنك قد عرّضت بنا. قلت: لا واللَّه ما هو تعريض، وما هو إلا تصريح؛ وأنت بدأت بالفضل، وأنت أولى من أتمّ ما بدأ به.
فقالت: يا جارية: عود. فأحضرت عودا، فأخذته، فما هو إلا أن جسّته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها، واندفعت تغني، مع صحة أداء وجودة صوت.
فقلت: واللَّه لقد جمع اللَّه لك خلال «1» الفضل، وحباك بالكمال الرائع، والعقل الزائد، والأخلاق المرضية، والأفعال السنية. فقالت: أما تعرف لمن هذا الصوت ومن غنّى به؟ قلت: لا واللَّه. قالت: الغناء لإسحاق، والشعر لفلان، وكان سببه كذا وكذا ... فقلت: هذا واللَّه أحسن من الغناء.
فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه، ومع ذلك تشرب وأشرب؛ حتى إذا كان عند انشقاق الفجر، جاءت عجوز كأنها داية «2» لها، فقالت: أي بنية، إن الوقت قد حضر، فإذا شئت فانهضي. فلما سمعت مقالها نهضت؛ فقالت: عزمت؟ قلت: إي واللَّه. فقالت: مصاحبا للسلامة، [عزمت] عليك لتسترنّ ما كنا فيه، فإن المجالس بالأمانة. فقلت جعلت فداك، أفأحتاج إلى وصية في ذلك؟
فودعتها وودعتني، وقالت: يا جارية، بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار ففتح لي وأخرجت منه إلى طريق مختصرة، وبادرت البيت، فصليت ووضعت رأسي، فما انتبهت إلا ورسل الخليفة على الباب؛ فقمت فركبت فسرت إليه، فلما مثلت بين يديه قال لي: يا إسحاق، جفوناك بما كنا ضمنّاه لك، وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي، ليس شيء آثر عندي وأسرّ إلى قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين فإذا كمل سروره وطاب عيشه فعيشنا يطيب وسرورنا يتصل بسروره. ثم قال: ما كانت حالتك؟ قلت: يا سيدي كنت اشتريت من السوق صبية، وكنت متعلق القلب بها، فلما تشاغل أمير المؤمنين عني، وقد كانت فيّ بقية طالبتني نفسي بها، فمضيت مسرعا وأحضرتها، وأحضرت نبيذا فسقيتها وشربت معها، وغلب عليّ السكر فقطعت عما أردت، وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا. فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين وهل أحد يمتنع من ذلك؟ قال: فإذا شئت [فانهض بنا] فنهض ونهضت، فصرنا إلى المجلس الذي كنا فيه بالأمس، على مثل حالنا وأفضل، حتى إذا كان ذلك الوقت وثب قائما، ثم قال يا إسحاق، لا ترم «1» ، فإني أجيئك، وقد عزمت على الصبحة. فما هو إلا أن فارقني حتى تصوّر لي ما كنت فيه، فإذا هو شيء لا يصبر عنه إلا جاهل فنهضت. فقال لي الغلمان: اللَّه اللَّه. وإنه أنكر علينا تخليتك وطالبنا بك، وقال، لم تركتموه؟ ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: واللَّه لا نال أحدكم بسببي مكروه أبدا. ولكن أبادر بحاجتي، واللَّه لا كان لي حبس ولا تريّث، وأمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه إذا دخل أبطأ، وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء اللَّه.
قال: فمضيت، فما شعرت إلا وأنا في الزقاق، فوافيت الزنبيل على ما كان عليه فأقعدت فيه وأصعدت، وصرت إلى الموضع [الذي كنت فيه البارحة] ، فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت، فقالت: ضيفنا؟ قلت: إي واللَّه. قالت: أو قد عاودت؟ قلت: نعم، وأظنّ أني قد أثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام فقلت:
هفوة، فمني بالصفح، قالت: قد فعلنا فلا تعد، قلت: إن شاء اللَّه.
ثم جلست، وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد والشرب، ولم نزل على تلك الحال وأفضل، وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط، وهي مع ذلك لا تزال تقول:
لو كنت على ما أنت عليه أحكمت من تلك الصنعة شيئا، لقد تناهيت وبرعت.
فأقول: واللَّه لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته ولا قدرت عليه. ثم قلت: جعلت فداك، لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة. فأخذت في الأغاني، وكلما مر صوت طيب قالت: أتدري لمن هذا؟ فأقول: لا! فتقول: لإسحاق! فأقول: وإسحاق هكذا في الحذق! فتقول. بخ إسحاق في هذا البيت بديع الصوت، وعميق الغناء. فأقول: سبحان اللَّه! لقد أعطي إسحاق هذا ما لم يعطه أحد! فتقول:
لو سمعت هذا منه لكنت أشدّ استحسانا له وكلفا به.
حتى إذا كان ذلك الوقت وجاءت العجوز، نهضت وودعتها، وبادرت جارية ففتحت الباب فخرجت منه.
وبادرت المنزل فتوضأت للصلاة وصليت الصبح، ووضعت رأسي فنمت، فما انتبهت إلا ورسل أمير المؤمنين يطلبونني؛ فركبت إلى الدار فما هو إلا أن مثلت بين يديه فقال لي: يا إسحاق، أبيت إلا مكافأة لنا ومعاملة بمثل ما عاملناك. قلت: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك ذهبت، ولا إليه قصدت، ولكنني ظننت أن أمير المؤمنين تشاغل عني بلذته وأغفل أمري، وجاء الشيطان فأذكرني أمر الجارية، فبادرت، فقال: وكان من أمرك ماذا؟ قلت: قضيت الحاجة وفرغت [من] الأمر.
فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها وواحدة بواحدة والبادي أظلم. فقلت: أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم، والمعذرة إليك فقال: لا تثريب عليك، هل لك في مثل حالنا الأول؟ قلت: إي واللَّه! قال: فانهض بنا. فقمنا حتى صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه، فأخذنا في لذتنا؛ حتى إذا كان الوقت قال لي: يا إسحق ما عزمت؟ قلت لا عزم لي يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك لتجلسنّ حتى أخرج إليك لتصطبح؛ فإني عازم على الصبوح وقد نغّصت عليّ منذ يومين! قلت: إن شاء اللَّه! وقام، فما هو إلا أن توارى، حتى قمت وقعدت، وجالت وساوسي، وجعلت أفكر في مجلسي معها وأفكر فيها، وفي الخروج عن طاعة المأمون وما يخرجني من سخطه وموجدته؛ فسهل [عليّ] كلّ صعب إذ فكرت في أمرها؛ فقمت مبادرا، فاجتمع عليّ جند الدار فقالوا: أين تريد؟ فقلت اللَّه اللَّه! إن لي قصة، وأنا معلّق القلب ببعض من في منزلي، وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك سبيل! فلم أزل أرفق بهذا، وأقبّل رأس هذا، ووهبت لواحد خاتمي، ولآخر ردائي، حتى تركوني؛ فلما خرجت عن جملتهم لم أرتد عنها جاسرا حتى وافيت الزنبيل وصعدت السطح وصرت إلى الموضع؛ فلما رأتني قالت: ضيفنا؟ قلت: نعم.
قالت: جعلتها دار مقام! قلت: جعلت فداك، حق الضيافة ثلاثة أيام، فإن عدت بعدها فأنت في حل من دمي! قالت: واللَّه لقد أتيت بحجة.
ثم جلسنا، وأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد، والمذاكرة، حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب، فكرت في قصتي، وأن المأمون لا يفارقني على هذا وانني لا اتخلص منه إلا بشرح قصتي وأكشف له عن حالي، وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير إليه، مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء؛ فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي؟ قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك، إني أراك ممن يقول بالغناء، ويعجب به وبالأدب ولي ابن عم هو أحسن مني وجها، وأشرف قدرا، وأكثر أدبا، وأعز معرفة، وأنا تلميذ من تلاميذه، وحسنة من حسنانه؛ وهو أعرف الناس بغناء إسحق! قالت: طفيلي ومقترح! لم ترض أن سمحنا لك ثلاثة أيام، حتى طلبت أن تأتي معك بآخر؟ فقلت لها: جعلت فداك، ذكرته لتكوني أنت المحكمّة، فإن أذنت وأردت ذلك وإلا فلا أذكره. فقالت: إن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فلا نكرة أن نعرفه، فقلت: هو واللَّه أكثر مما وصفت! فقالت: إن شئت فالليلة الآتية أئت به.
ثم حضر الوقت فنهضت حتى وافيت منزلي، وإذا برسل الخليفة قد هجموا على منزلي وأصحاب الشرطة؛ فلما بصروا بي سحبت على ما بي بحالتي تلك، حتى انتهوا بي إلى الدار؛ فإذا المأمون جالس على كرسي وسط الدار، مغتاظ حرد»
؛ فقال:
أخروجا عن الطاعة؟ قلت: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى الخلوة. فأومأ إلى من كان واقفا فتنحّوا، فلما خلونا قلت: كان من خبري كذا وكذا، وفعلت وصنعت ...
فو اللَّه ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحق، أتدري ما تقول؟ فقلت: إي واللَّه! إني لأدري! فقال: ويحك! كيف لي مشاهدة ما شاهدت؟ قلت: ما إلى ذلك سبيل! قال: لا بد أن تتلطف وتوصّلني إليها؛ فهذا ما بقي لي صبر عنه! قلت: واللَّه إني قد تفكرت في قصتها وفيما قدمت عليه من عصيانك، وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق وكشف الحال، وعلمت أنك تطالبني به أشدّ مطالبة فقدّمت لها ذكرك، ووعدتني في أمرك بكذا وكذا. قال: أحسنت واللَّه لولا ذلك لنا لك مني كلّ مكروه! قلت: فالحمد للَّه الذي سلّم.
ثم نهض ونهضت إلى مجلسنا، وأخذنا في لذتنا، وهو مع ذلك يقول: يا إسحق، صف لي حالها، واشرح لي أمرها! فقطعنا يومنا في مذاكرتها إلى أن مضى النهار، فلما أن مضى من الليل هدأة «1» جعل يقول: ما جاء الوقت! وأنا أقول بقي قليل؛ والقلق غالب عليه، حتى جاء الوقت، فنهضنا وخرجنا من بعض أبواب القصر؛ معنا غلام، وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا، ثم سلمنا الحمارين للغلام، وقلنا له:
انصرف، فإذا كان الفجر فكن ههنا بالحمارين وأقبلنا نمشي متنكرين وأنا أقول:
يجب أن تظهر برّي بحضرتها وإكرامي. وتطرح نخوة «2» الخلافة وتجبّر الملك، بل كن كأنك تبع لي! وهو يقول: نعم أو يحتاج أن توصيني؟ ثم قال: ويحك يا إسحق! فإن قلت لي غنّ كيف أصنع؟ قلت: أنا أكفيك وأدفعها عنك برفق.
فلما صرنا إلى الزقاق إذا بزنبيلين «3» معلقين بثمان حبال، فقعد كل منا في واحد وجذبتا الجواري، وإذا نحن في السطح؛ وبادرن بين أيدينا حتى انتهينا إلى المجلس، فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزّي، ويتعجب عجبا شديدا؛ ثم قعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه، وقعد المأمون دوني في المرتبة، ثم أقبلت فسلمت، فما تمالك أن بهت من حسنها، فقالت حيّا اللَّه ضيفنا! فو اللَّه ما أنصفت ابن عمك، ألا رفعت مجلسه؟ فقلت ذلك إليك، جعلت فداءك! فقالت [له] : ارتفع فديتك فأنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت، ولكل جديد لذة! فنهض المأمون حتى صار في صدر المجلس، ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو يأخذ معها في كل فن، ويفخمها قال ثم التفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك وصدقت في قولك ووجب شكرك على صنيعك! قال: ثم أحضر نبيذ وأخذنا في الشراب، وهي مع ذلك مقبلة عليه وهو مقبل عليها، ومسرورة به ومسرور بها؛ فقالت لي: ابن عمك هذا من أبناء التجار؟ قلت: نعم، فديتك نحن لا نعرف إلا التجارة! قالت وإنكما فيها لغريبان! ثم قالت: موعدك! فقلت: لعمري إنه لمجيب، ولكن حتى نسمع شيئا. قالت: لك ذاك. فأخذت العود فغنت صوتا، فشربنا عليه رطلا؛ ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه عليّ، فشربنا عليه رطلا.
فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال، داخله الفرح والارتياح وقال: يا إسحق؛ فو اللَّه لقد رأيته ينظر إليّ نظر الأسد إلى فريسته؛ فنهضت وقلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: غنني بهذا الصوت! فلما رأتني قمت بين يديه وأخذت العود ووقفت بين يديه أغنيه، علمت أنه الخليفة وأني إسحق؛ فنهضت فقالت؛ ههنا! وأو مأت إلى كلة «1» مضروبة، فدخلتها؛ ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلا، وقال لي: ويحك يا إسحق! انظر من ربّ هذه الدار! فخرجت إلى تلك العجوز فسألتها عن صاحب الدار فقالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه؟ قالت: بوران ابنته فرجعت وأعلمته.
قال؛ ثم انصرفنا، فقال لي: يا إسحق، اكتم هذا الأمر ولا تتفوّه به. ومضينا إلى دار الخلافة؛ فلما كان الصباح وحضر الحسن بن سهل على عادته، قال له المأمون:
ألك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال ما اسمها؟ قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك قال هي أمتك يا أمير المؤمنين، وأمرها إليك قال فإني قد تزوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار: فإذا قبضت المال فاحملها إلينا.
ثم تزوجها، وكانت أحظى نسائه عنده، وآثرهن لديه؛ وكنت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون.
[قال إسحق] : فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام، إذ كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين إلى مجلسها، وو اللَّه ما رأيت من الرجال وملوكهم وخلفائهم أحدا يفي بالمأمون، ولا شاهدت من النساء امرأة كبوران في عقلها؛ وأما معرفتها وأدبها فما أظن من يتهيّأ له أن يقف من العلوم على ما وقفت عليه ولقد سألت بعض من يتولى خدمتها من العجائز: ما حملها على ما أرى؟ فقالت: إنها تفعل ذلك منذ كذا وكذا سنة، ولقد عاشرت الظرفاء والملاح والأدباء أكثر من أن يقع عليه إحصاء، ولم يكن جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خنا «1» ولا كلمة قبيحة؛ ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة، ومعاشرة الظرفاء وأهل المروءة والأقدار والنّبل والأخطار، لا لريبة تظهر، ولا لحالة تنكر. قال: فو اللَّه لقد تضاعف قدرها عندي، وعظم خطرها في نفسي، وعلمت شرف همتها وفضلها.
فهذا خبر بوران صحيحا على الحقيقة، وسبب تزوّج المأمون بها.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید