المنشورات

باب اللغز

كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة، فاجتمع يوما في مجلس بالكوفة فيه حماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب؛ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ما بقي شيء إلا وقد تهيأ في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي! فأرسلوا إليه، فأقبل يقول: مرهبا مرهبا! هياكم اللَّه! وقد كان قال أحدهم. من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة، وزج «2» ؟ وشيطان! فقال حماد الراوية: أنا! فقال: يا أبا عطاء؛ كيف علمك باللغز؟ قال: هسن، يريد: حسن، فقال له:
فما صفراء تكنى أمّ عوف ... كأنّ سويقتيها منجلان «3»
قال: زرارة. فقال: أصبت، ثم قال:
أتعرف مسجدا لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان؟
قال: في بني سيتان. فقال: أصبت، ثم قال:
فما اسم حديدة في الرمح ترمى ... دوين الصدر ليست بالسنان؟
فقال: ززّ. فقال: أصبت.
وقال المأمون يصف خاتما:
وأبيض أمّا جسمه فمدور ... نقيّ وأمّا رأسه فمعار
ولم يكتسب إلا ليسكن وسطه ... مؤنثة لم تكس قطّ خمار
لها أخوات أربع هنّ مثلها ... ولكنها الصّغرى وهن كبار
وقال آخر في أرنب:
لهوت بذات رأس والتياث ... كرفع الإصبعين على الثلاث «1»
إذا السّبّابة ارتفعت مع الخن ... صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث
لهوت بها تطير بلا جناح ... وتنسب في الذّكور وفي الإناث
وقال:
ربّ ثور رأيت في حجر نمل ... وقطاة تحمّل الأثقالا
ونسور تمشي بغير رءوس ... لا ولا ريش تحمل الأبطالا
وعجوز رأيت في بطن كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا
وغلام رأيته صار كلبا ... ثم من بعد ذاك صار غزالا
وأتان رأيت واردة الما ... ء زمانا وما تذوق بلالا
وعقاب تطير من غير ريش ... وعقاب مقيمة أحوالا
الثور: النمل الذي يخرج التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي يعمل منه غمد السيف. وصار كلبا: ضم كلبا، أخذه من صار يصور، من قول اللَّه:
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
«1» والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة.
والمقيمة أحوالا: اللواء.
وقال آخر في البيضة:
ألا قل لأهل الرأي والعلم والأدب ... وكلّ بصير بالأمور أخي أرب «2»
ألا خبروني أي شيء رأيتم ... من الطير في أرض الأعاجم والعرب
قديم حديث قد بدا وهو حاضر ... يصاد بلا صيد وإن جدّ في الطّلب
ويؤكل أحيانا طبيخا وتارة ... قليّا ومشويّا إذا دسّ في اللهب
وليس له لحم وليس له دم ... وليس له عظم وليس له عصب
وليس له رجل وليس له يد ... وليس له رأس وليس له ذنب
ولا هو حيّ لا ولا هو ميّت ... ألا خبروني إنّ هذا هو العجب
وقال غيره:
إني رأيت عجوزا بين حاجبها ... ونابها حبشيّ قائم رجل «3»
له ثلاثون عينا بين مرفقه ... وبين عاتقه في رجله قزل «4»
في ظهره حيّة حمراء قانية ... في ظهره رجل في ظهره رجل
العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام.
وقوله: له ثلاثون عينا بين عاتقه ومرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله:
في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض.
وقال آخر في القلم:
فلا هو يمشي لا ولا هو مقعد ... وما إن له رأس ولا كفّ لامس
ولا هو حيّ لا ولا هو ميّت ... ولكنّه شخص يرى في المجالس
يزيد على سمّ الأفاعي لعابه ... يدبّ دبيبا في الدّجى والحنادس
يفرّق أوصالا لصمت يجبنه ... وتفري به الأوداج تحت القلانس
إذا ما رأته العين تحقر شأنه ... وهيهات يبدو النّقس عند الكرادس «1»
وقال آخر فيه:
ضئيل الرّواء كبير العناء ... من البحر في المنصب الأخضر
عليه كهيئة مرّ الشجا ... ع في دعص محنية أعفر «2»
إذا رأسه صح لم ينبعث ... وحاد السبيل ولم يبصر
وإن مدية صدعت رأسه ... جرى جري صائب لم يقصر
يقضي لبانته مقبلا ... ويحسمه هيئة المزبر «3»
جريء بكفّ فتى كفّه ... تسوق الثراء إلى المقتر












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید