المنشورات

مقامة العزلة

يا أبا القاسم أزلْ نفسَك عن صحبةِ الناسِ واعزِلها. وائتِ فرْعةً من فِراعِ الجبلِ فانزِلها. ولُذْ ببعضِ الكُهوفِ والغيران. بعيداً منَ الرفقاءِ والجيران. حيثُ لا تُعلّقُ طرفكَ إلا بسوادِك. ولا تجري مؤامرتَكَ إلا مع فؤادكْ. ولا توصِلْ إلى سمعكَ إلا همسَكَ ومُناجاتك. وإلا جُؤارَكَ ومُناداتك. ولا تفطُنْ لعيبِ أحدٍ سوى عيبك. ولا يهمكَ إلا دنسُ رُدْنَيكَ وجيبك. قاتلَ اللهُ بني هذهِ الأيام. فإنهمْ طلائعُ الشرورِ والآثام. لِقاهمْ لقاءٌ وحوارُهم غِوار. ونِقالُهم نِقارْ. ووِفُاقهم نِفاقٌ تسلِق بألسنتِهم الأعراض. كما ترشقُ بسهامهِم الأغراض. تجمَعُ النّدوَةَ كِبارَهم فلا يتواصَوْنَ بالصبر بلْ يتناصَوْن على الصَّدر. ولا يتشاوَرونَ في حسمِ الفساد. كما يتساورُون على قسمِ الوِساد. إنْ آنسوكَ حمِدْتَ الوحشَة. وإن جالسوكَ ودَدْتَ الوَحدة. بينا أنتَ في خلواتكَ وانفرادِك مُكبّاً على أحزابكَ وأورادِك. مرَدّداً فكرَكَ كما يجبُ فيهِ ترديدُه. مجدّداً ذكرَ اللهِ الذي لا ينبغي إلا تجديدُه. مُشتغلاً بخويصة نفسكَ وماِ يعنيك. عاكفاً على ما يدعوكَ إلى الخيرِ ويُدنيك. ويلفتُكَ عن الشرِ ويثنيك. إذ فوجئتَ بمُثافنةِ بعضهم. من الذينَ أخذكَ اللهُ ببغضِهم. فضربَ بينكَ وبينَ ما كنتَ فيهِ بأسداد. ورماكَ بأمورٍ من تلكَ الأولِ بأضداد. وافتنَّ في الأحاديثِ كحاطبِ الليلْ. واستنَّ في الأكاذيبِ كعائرِ الخيلْ ملقياً أسبابَ الفتنِ بين يديِ افتنانه. مخلّفاً للآدابِ والسننِ وراءَ استنانهِ. لا يدفعُ في صدرِه من حياءٍ دافعْ. ولا يزَعهُ من دينِ حق وازِع. ولا ينزعُه من عرقِ صدقٍ نازع. فإذا أنشأ يأكلُ لحمَ أخيهِ بالنقيصةِ والثّلبِ. ويلغُ في دمهِ الحرامِ وُلوغَ الكلب. ويصوَّبُ ويصعّدُ في تمزيقِ فروتهِ. ويقومُ ويقعدُ في قرعِ مروته. ويخلطُ ذلكَ باستهزاءٍ متتابع. واستغرابٍ متدافع. لم يملكْ حينئذٍ عنانهْ. ولم يُثبطْ عنِ استهزائهِ جنّانه فإن لم تُقبل عليهِ بوجهكَ وصفكَ بالكبرياءْ. وإن لم ترعهِ سمعكَ نسبكَ إلى الرّياءْ مسجّلاً عليكَ بالشكاسةِ والكزازةْ. 
وناهضاً عنكَ بملءْ الصدرِ منَ الحزازة. وإن أعطيتهُ من نفسِكَ ما يريد فكلاكما والشيطانُ المريد. قد جرى أحدُكما في طلقِ الضلالِ والثاني رسيلُه. واستوى الأولُ على صهوةِ الباطلِ والآخرُ زميلهُ. بل استبقتُما إلى غايةِ الغوايةِ مُعنِقينْ. وتردَّيتما في هُوَّةِ الرَّدى معتنقِينْ. فيالها محنةً ما أضرَّها ويا لها فتنةً وقى اللهُ شرَّها.
الإنسُ مشتققٌ منَ الإنسِ ... والأنسُ أن تنأى عنِ الإنس.
ثيابهمْ مُلسُ ولكنها ... على ذئابٍ منهمُ طُلسِ.
نفسَك فاغنمها وشرِّد بها ... عنْهم وقُلْ أفلتِ يا نفسِ.
إنْ لمْ تشرِّدْها تجدْها لقىً ... للفَرْسِ بينَ الظفْرِ والضِّرْسِ.












مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید