المنشورات

مقامة التصبر

يا أبا القاسم نفسُك إلى حالها الأولى نزَّأة فاغزُها بسريّةٍ من الصبرِ غزَّأة. لعلّكَ تفلُّ شوكتَها وتكسِرُها. وتجبُرها على الصَّلاحِ وتقسرُها فإن عصتْ وعتتْ وعدَتْ طوْرَها. وألقَتْ بصحراءِ التمرد زَوْرَها وانقشعتْ عن غُلُبتّها. 
ووقعت على مُصابرتكَ الدَّبرة وعلمِتَ أنَّ صبرَك وحدهُ لا يقومُ عِنادَها ولا يقاومُ أجنادَها فاضمُمْ إلى الصَّبر من التصبرِ مَددا وأوْلهِ منَ التشدَّدِ عُدَّةً وعددا. واعتقد أنَّ الخطبَ ليسَ منَ الدَّدْ إنما هوَ منَ الإدَد. ومما إن أعضَلَ وتفاقمَ له يكفهِ التعارُك. وعجزَ عنهُ التّلافي والتّدارك. فإن رأيتَ الصَّبر والتصبرَ لا يفيان وعلمتَ أنهما لا يكفيان، ووجدتَ شرَّها يزدادُ ويربو. وشرَّتها تمضي ولا تكبو. وزرْعُ باطِلها يزكو. وضِرامَ غيَّها يذكو. فخادِعها عمّل تنزو إليهِ وتطمحْ. وتمدُّ عينيها إليهِ وتلمح واستقبِلها بما يُذهلُها ويُلهيها عنِ المطالبِ التي تشتهيهيا وينأى بجانبها عما يخلجُها من النّظر ويتولّى بُركنها عمّا ينزِعها منَ البطَرْ. جرِّدها عنِ الملبَس البهي. وافطِمها عنِ المطعمِ الشهي وزحزِحها عن وطأةِ المطرَح ووضاءةِ المطمَح. وجافِها عنِ الفراغِ المورثِ للكسلْ، والرقادِ المعقبِ للرَّهل. وأذِقها أكلَ الخشبِ ولُبسَ الخشنِ وخذْها بالنومِ المشرِّد. 
والشرب المصَرِّد. ومُسها بالجوادِ والجوع ونحِّها عنِ الهُجودِ والهُجوع وعرِّضها لكلِّ مضجعٍ مُقض. وحدِّثها بكلِّ مفجعٍ ممض. واستفزِز بها في الأحايين بمثلِ ما يؤثُر عن بعضِ الصالحين. من إيلامِها بلذعِ الجمرّة ووخزِ الإبرة. وغسِّلها بالطهور الباردِ في حدِّ السّبره. وتدويرِها في المقابرِ والخراب وتعفيرِ وجهها بالتراب. فلا تفتر في خلالِ ذلك أن تعرِض عليها ما وعدَ اللهُ الأتقياء. وما أوعدَ به الأشقياء وأن تكرِّر على مسامِعها السورَ التي تُروعُ وترْدَع والآياتِ التي تقرَعْ وتقدَعْ. وأن تقذِفَ عليها كلَّ عبءٍ منَ العبادةِ باهظ، وترميها بما يُحكُّ في قلبها ويحيكُ منَ المواعظ. فإنّك إن فعلتَ ذلكَ استبدلتْ من نزوتها سُكوناً واعتاضت ولانتْ بعدَ جِماحها وارتاضت ولم تأبَ عليك خيراً تريدُه. ولا عملاً صالحاً تُبدئهُ وتُعيدُه واحتفظ بما ألقي إليكَ من بابِ الرياضةِ من جوهرةِ ابن عُبيد فإنّه خيرٌ لكَ من جمهرةِ ابنِ دُريد.









مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید