المنشورات

مقامة الخشية

يا أبا القاسم ما بالُك وبالُ كلٍ من تَرى ممّن يدبُّ على وجهِ الثرى. إذا دعا أحدكم هذا المَلكُ المُستولي والسلطانُ المُستعلي راعَهُ ذلكَ رَوْعاً عجيباً. وامتلأ قلبهُ زفرَةً ووَجيبا. وعَرَته الرَّعدَةُ والرَّعشة كأنّما دُهي وشُغِلَ عن نفسهِ شغلاً أضلَّ لهُ الحلمَ والسكينة وأغفلَ لهُ الوَقارَ والطمأنينة. واسُتطيرَ واسُتطربَ وامُتقعَ لونهُ وانتُقعْ، وحسِبَ أنّهُ وقُعَ له بخراجِ مصرَ أو ببيضتهِ أُوقِعْ للخوفِ والرَّجاءِ في قلبهِ مضطرب، يتعاقبُ عليهِ الحربُ والطرَبْ. ومرَّ مشدوهاً لا يدري أيُّ طرفيهِ أطوَل مَدهوشاً.
يتراءى له الشخصُ شخصينِ كأنُه أحوَل. فإذا رُفعتْ له الأعلامُ والقِباب. وملأ عينيهِ الفِناءُ والباب. وأفضى إلى ما وراءَ الحِجاب منَ الوجهِ المحتجِب والرَّأسِ المعتصب فلا تسأل حينئذٍ عن مُضلعةٍ منَ التهيبِ تكادُ تقوَّمُ أضلاعه وفادحةٍ من الاحتشامِ تفوِّتُ استقلالهُ واضطلاعَه ثمَّ إمّا أنْ يُمسَّ بسوطٍ منَ السخطِ فما أهونَهُ وأهَونُ منه من يخشاهُ ويرهبه وإما أن يلبسَ ثوباً من الرِّضى فما أدونَهُ وأدونَ منهُ من يرجوهُ ويطلبُه. ولو أنكَ أجلتَ عينيكَ في هذا السوادِ كلهِ لا في أكثرهِ. وأدرتُهما على أسودِه وأحمرِه. لما أبصرتَ أحداً إذا نوديَ للصِّلاةِ والنداءُ نداءُ مالكِ الملوكِ وممالكِهم. ومتولّي معايشهِم ومهالكِهم. والصلاةُ عبادتهُ التي صبّها في الرِّقاب. أدارَ فعلَها وتركَها بينَ الثّوابِ والعِقاب. والثوابُ ما لا ثوابَ أبهى منهُ وأسَر. والعقابُ ما لا عقابَ أدهى منه وأمر يرهقهُ نبذٌ مما رهقهُ معَ دعوةِ العبدِ الذليل. أو يدهمهُ ذرْوٌ مما دهمَهُ عند نداءِ البشرِ الضئيل. هل رأيتَ في عمرِك وأنتَ بينَ ألفِ نفسٍ مسلمة وفي كنفٍ من أعلامِ العلمِ وفوارسهِ المعلمة وقد نعقَ المؤذِّنُ شخصاً قد تحيّر. أو وجهاً قد تغير أو جبيناً قد عرِق. أو جفناً بدمعهِ شرِق وهلْ شعرتَ بصدرٍ يزَفر وقلبٍ يجب وهلْ أحسستَ أحداً يؤدِّي بعضَ ما يجب. لو لم تكنْ إلا هذه الواحدةُ لكفَى بها موجبة أن نعذَّبَ عن آخرِنا ونُكبَّ في النارِ على مناخرِنا.












مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید