المنشورات

مقامة الموت

يا أبا القاسم لقد صحبتَ طويلاً رِجالاتِ قَومِك. وكأنّك رأيتَ خيالاتٍ في نومِك تلقطهُم أيدي المَنونِ فُرادى ومَثنى وكأنّهم لم يتديروا داراً ولم يغْنوا بمغنى خرِبَت أعمارُهم بعدَما عمِروا عُمّارا. وأصبحوا أسماراً بعدَما كانوا سُمارا. أينَ جَدُّكَ بعدما حَلَبَ أشطُرَ الزَّمان. وجمَعَ هُنيدَة نصرِ بنِ دَهمان وكلُّ من نُفِّسَ لهُ وعُمِّر أدركهُ سِنانُ الموتِ فدُمِّر لا فصلَ إذا احتُضر بينهُ وبينَ منِ اختُضر سيانَ عندَ الموتِ شيخُ القومِ وشرْخُها وشكلانِ عندَهُ قشعَمُ الطيرِ وفرخُها لا يتخطى مُحدِّثاً ليعرِّج على مُعمر.
ولا يحترِمُ مُحدثاً فيخترِمَ دونهُ المُغمر بل يسوقُهُما بسوطٍ واحدٍ إلى مدى ويسبقُ بهما معاً إلى قصبةِ الرَّدى كأنكَ لم تتقلب في حجرهِ تقلباُ ولم تتخذ منكبِهُ مركَبا. ولا عُهدتَ على لبانهِ تلعَب. ولا شُهِدْت أمامهُ تلعب ولا اتفقَ لكَ إلى مجلسهِ روَاحٌ ولا غُدُو. ولا بينَ يديهِ للاستفادةِ جُثُو. وأينَ مَنِ انتُضيتَ مِن صُلبه ثمَّ أغمدكَ الهوى في قلبه فكنُتَ أخَصَّ بِفؤاده منْ سوَاده لِفرط مقته لكَ وَوداده أباكَ وأبي إلا كُلَّ خير لكَ وفيك. وَرَبّاكَ وحَبَاكَ ما قَدَرَ عليه منْ مَبَاغيك ورشْحكَ لِما أصْلحَكَ ترشيحاً ورقّحَ لكَ ما عِشتَ به تَرْقيحاً. ونَقّحَ عُودَكَ منَ العُقَد تنَقيحاً ولقّحَ ذهنك بالعلِم والأدب تَلقيحاً. اختلسَهُ الحِمامُ قبلَ أنْ يُخلِسَ عارضُهْ وهُيِّجَ قبلَ أن يَهيجَ بأرضُهْ وأينَ منْ عشيرِتَكَ كُل مُعَمِّ مُخوَلْ قُلّبٍ حُوَّلْ مخِلَطٍ مِزْيَلْ. مُبرِمٍ نَقّاضٍ عندَ مزاولةِ الخطوبِ خَفّاقِ القَدَمِ إذا سعى في كشفِ الكُروبْ. ليَنِ العِطفِ للِخُلصانِ مِنَ الخُلانْ أشوَسِ الطّرْفِ على أولي المقتِ والشنَئانْ مَزُورِ البيتِ غيرِ زَوَّارْ مُزْوَرٍ عن الفحشاءِ عَف الإزَارْ تَقَدَّمُوكَ فُرَّاطاً إلى وِرْدٍ لا يَصْدُرُ عنهُ وَارِدهْ ولا يرُش الأكبادَ بارِدُهْ. منْ وَرَدَهُ يبِسَ منَ الغُلّةِ بليَلُه ويَئِسَ منَ البِلّةِ غلّيلُه. ما هوَ إلا العطشُ القاتلُ دونَ الريَ وإنْ تطايرَ إليهِ الوُرَّادُ كالقَطا الكُدْريْ. وهَا أنتَ لأعقابِهِم وَاطْ وعَلى آثارِهِمْ خَاطْ وَكأنْ قدْ لحِقتَ بِهِمْ فألقيتَ رِشاءَكَ مع أرْشيِتهِمْ ومَلأتَ سِقاءَكَ مَعَ أسقَيتهِمْ.











مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید