المنشورات

مقامة النهي عن الهوى

يا أبا القاسم إنَّ الذي خَلقكَ فَسَوَّاكْ رَكّبَ فيكَ عقْلكَ وهوَاكْ وهُما في سُبُلِ الخيرِ والشَرِّ دَليلاكْ، وفي مراحِلِ الرُشْدِ وَالْغِيِّ نَزِيلاكْ. أحَدُهُما بَصيرٌ عالِمٌ يَسْلُكُ بِكَ في الْبَرْدَيْنِ المَحَجّةَ البَيْضاءَ وَيَرِدُ بِكَ زُرْقَ المنَاهِلْ والآخَرُ أعمَى جاهِلٌ يخبِطُ بِكَ فيِ بَيضةِ الهَاجِرَةِ البيِدَ ذَاتَ المَعاطِشِ والمجَاهِلْ فأي دَلِيليَكَ امهَرُ بِالدَّلالَةِ وَأحذَقْ وَأيهُما أجْدَرُ بِأنْ يُتَبعَ وَأخْلَقْ أمَنْ تَفُوزُ منْهُ بِالهدَايةِ وَحُسْنِ الدَّلالَةْ أمْ مَنْ يُفَوِّزُ بكَ في تيهِ الغَيِّ وَالضَّلالَةْ تَعَلّمْ أنّهُ ليَسَ منَ العدلْ أنْ تَسْتَحِبَّ الهَوى على العَقْلْ إنَّ جانِبَ العقْلِ أبَيضُ كَطُرَّةِ الفَلقْ وَجِهَةَ الهَوَى سَودَاءُ كجُدَّةِ الغَسَقْ إنِ اتّجَهَ لكَ أمْرٌ فَعَرَضتَهُ على نفسِكَ فانظُرْ أيُهما إلَيْهِ المائِلْ. ولَهُ القابِلْ فإن كانَ العقلَ فأحرِبِهِ أنْ تَلْنَزِمَهُ الْتِزَامَ الصَّب وَتَعتلِقَهْ وأن تجعَلَ يَدَيْكَ لَهُ وِشَاحاً وتعتنِقَهْ. وَأنْ لا تخَلّى عَنهُ وإن اشْتَجرَتْ دُونَهُ الرِّماحْ واخْتُرِطَتْ بَيْنَكَ وبيَنهُ الصِّفَاحْ. واعترضَ الموتُ الذُّعافْ. وجاءَ كُلُّ ما تَكرَهُ وَتَعافُ. وَإنْ كانَ الهَوَى فَفِرَّ منهُ فِرَارَكَ منَ الأسَدْ. واحذَرْهُ حِذَارَكَ مِنَ الأسْوَدْ وإنْ رَأيْتَهُ بكُلِّ ما يَسُركَ مَصْحُوباً. وَكُلِّ ما تتمنّاهُ إليه مَجْنُوناً وَإنْ كانَ الأمْرُ بَينَ بَينَ فَتَبَيّنْ وتثّبتْ وَاسْتَعْمِلِ الأنَاةَ وَالتؤَدَةْ وَشاوِرْ مَنِ اسْتَنْصَحْتَ منْهُمُ الجُيُوبَ والأفْئِدَةْ. وَعَرَفْتَ أنّهُمْ مِمّنْ يُوصِي بِالْحَقَ وَيُومِيِ إلى الصِّدْقِ. فإنْ طَلَعَ مِنْ كِنانَتِهِمْ سَهْمٌ صائبْ وَأضاءَ لَهُمْ رَأيٌ ثاقِبْ فَذَاكَ وإلا فاتّقِ النّفْعَ الذّي يَلُوحُ لَكَ مِنْ جَيْبِهْ بضَررٍ تحسَبُهُ كميناً وَرَاءَ غيْبِهْ واعمَلْ على الإخلالِ بهِ وَتخْلِيتَهْ وَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِتَوَلِّيهِ ولا تَوْلِيَتِهْ وَكُنْ في تَقْوَاكَ كَسالِكِ طَريِقٍ شائِكٍ لا بُدَّ لَهُ مِنْ انْ يَتَوَقّى وَيَتَحَفّظْ وَيأخُذَ حِذْرَهُ وَيتيقّظْ.
هَوَاكَ أعْمَى فلا تَجْعَلْهُ مُتّبَعاً ... لا يَعْتَسِفْ بِكَ عَن بَيْضاءَ مسلوكه. 
اتْرُكْهُ وَامْشِ على آثارِ عقْلِكَ في ... محجّةِ مِثْلُها ليْستْ بِمْترُوكهْ.
فالْعقْلُ هادٍ بصيِرٌ لا يَزيِغُ إلى ... بَصيرَةٍ عَن سَدَادِ الرَّأْيِ مأفُوكَهْ.
وَمَنْ يَقُدْهُ هَوَاهُ في خزِامَتِهِ ... فَذَاكَ بَيْنَ ذَوِي الألْبابِ أُضْحُوكَه.












مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید