المنشورات

المَقَامَةَ المَطْلَبِيَّةُ

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
اجْتَمَعْتُ يَوْماً بِجَماعَةٍ كَأَنَّهُمْ زَهْرُ الرَّبِيعِ، أَوْ نُجُومُ اللَّيْلِ بَعْدَ هَزِيعٍ، بِوُجُوهٍ مُضِيَّةٍ، وَأَخْلاقٍ رَضِيَّةٍ، قَدْ تَنَاسَبُوا فِي الزِّيِّ وَالحَالِ، وَتَشَابَهُوا في حُسْنِ الأَحْوَالِ، فَأَخَذْنَا نَتَجَاذَبُ أَذْيَالَ المُذَاكَرَةِ، وَنَفْتَحُ أَبْوابَ المُحَاضَرَةٍ، وَفِي وَسَطِنَا شَابٌّ قَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، مَحْفُوفُ السِّبَالِ، لا يَنْبِسُ بِحَرْفٍ، وَلا يَخُوضُ مَعَنا في وَصْفٍ، حَتَّى انْتَهَى بِنَا الكَلاَمُ إِلَى مَدْحِ الغِنَى وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ المَالِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ زِينَةُ الرِّجَالِ، وَغَايَةُ الكَمَال، فَكَأَنَّمَا هَبَّ مِنْ رَقْدَةٍ، أَوْ حَضَرَ بَعْدَ غَيْبَةٍ، وَفَتَحَ دِيوَانَهُ، وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ، فَقَالَ: صَهْ لقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيئٍ عَدِمْتُمُوهُ، وَقَصَّرْتُمْ عَنْ طَلَبِهِ فَهَجَّنْتُمُوهُ، وَخُدِعْتُمْ عَنْ البَاقِي بِالفَانِي، وَشُغِلْتُمْ عَنْ النَّائِي بِالدَّانِي، هَلْ الدُّنْيَا إِلاَّ مُنَاخُ رَاكِبٍ، وَتَعِلَّةُ ذَاهِبٍ؟ 
وَهَلْ المَالُ إِلاَّ عَارِيَةٌ مُرْتَجَعَةٌ، وَوَدِيعَةٌ مُنْتزَعَةٌ؟ يُنْقَلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ، وَتَخْزُنُهُ الأَوَائِلُ لِلآخِرِينَ، هَلْ تَرَوْنَ المَالَ إِلاَّ عِنْدَ البُخَلاَءِ، دُوَنَ الكُرَماءِ، وَالجُهَّالِ دُونَ العُلَمَاءِ؟ إِيَّاكُمْ وَالانْخِدَاعَ فَلَيْسَ الفَخْرُ إِلاَّ في إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، وَلا التَّقَدُّمُ إِلاَّ بِإِحْدَى القِسْمَتَيْنِ: إِمَّا نَسَبٌ شَرِيفٌ، أَوْ عِلْمٌ مُنَيفٌ، وَأَكْرِمْ بِشَيءٍ يُحْمَلُ عَلى الرُّؤُوسِ حَامِلُهُ، وَلا يَيْأَسُ مِنْهُ آمِلُهُ، وَاللهِ لَوْلاَ صِيَانَةُ النَّفْسِ وَالعِرْضِ، لَكُنْتُ أَغْنَى أَهْلِ الأَرْضِ، لأَنَّنِي أَعْرِفُ مَطْلَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِأَرْضِ طَرْسُوسَ، تَشْرَهُ فِيهِ النُّفُوسُ، مِنْ ذَخَائِرِ العَمَالِقَةِ، وَخَبَايَا البَطارِقَةِ، فِيهِ مَائَةُ أَلْفِ مِثْقالٍ، وَأَمَّا الآخَرُ فَهْوَ مَا بَينَ سُورَا وَالجَامِعَيْنِ، فِيهِ مَا يَعُمُّ أَهْلَ الثَّقَلْينِ، مِنْ كُنُوزِ الأَكَاسِرَةِ، وَعُدَدِ الجَبَابِرَةِ، أَكْثَرُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، وَدُرُّ وَجَوْهَرٌ وَتِيجَانٌ مُرَصَّعَةٌ وَبِدَرٌ مُجَمَّعَةٌ فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا ذَلِكَ أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ وَمِلْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذْنَا نَسْتَعْجِز رَأَيَهُ، فِي القُنُوعِ بِيَسِيرِ المَكَاسِبِ، مَعَ أَنَّهُ عَارِفٌ بِهَذِهِ المَطَالِبِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَفْزَعُ مِنْ السُّلْطانِ، وَلا يَثِقُ إِلى أَحَدٍ مِنَ الإِخْوَانِ، فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا حُجَّتُكَ، وَقَبِلْنَا مَعْذِرَتَكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْنَا، وَتَمُنَّ عَلَيْنَا، وَتُعَرَّفْنَا أَحَدَ هَذَيْنِ المَطْلَبَيْنِ، عَلى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَيْنِ؛ فَعَلْتَ، فَأمالَ إِلَيْنَا يَدَهُ، وَقَالَ: مَنْ قَدَّمَ شَيْئاً وَجَدَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَا يُنَالُ، هَانَ عَلَيْهِ بَذْلُ المَالِ، فَكُلٌّ مِنَّا حَبَاهُ بِما حَضَرَ، وَتَشَوَّقَ إِلى مَا ذَكَرَ، فَلَمَّا مَلأْنَا كَفَّهُ، رَفَعَ إِلَيْنَا طَرْفَهُ، وَقَالَ: لابُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَقاً، وَنَنَالُ مَا يُمْسِكُ رَمَقاً، وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُنَا، وَالمَوْعِدُ غَداً هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الجَمَاعَةُ، قَعَدْتُ بَعْدَهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ، وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُلْتُ وَقَدْ رَغِبْتُ في مَعْرِفَتِهِ، وَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مُحَادَثَتِهِ: كَأَنَّنيِ عَارِفٌ بِنَسَبِكَ، وَقَدْ اجْتَمَعْتُ بِكَ! فَقَالَ: نَعَمْ ضَمَّنَا طَرِيقُ، وَأَنْتَ لِي رَفِيقٌ، فَقُلْتُ: قَدْ غَيَّرَكَ عَلَيَّ الزَّمَانُ، وَمَا أَنْسَانِيكَ إِلاَّ الشَّيْطَانُ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: 
أَنَا جَبَّارُ الزَّمَانِ ... لِي مِنَ السُّخْفِ مَعَانِي
وَأَنَا المُنْفِقُ بَعْدَ ال ... مَالِ مِنْ كِيسِ الأَمَانِي
مَنء أَرَادَ القَصْفَ وَالغَرْ ... فَ عَلَى عَزْفِ المَثَانِي
وَاصْطَفَى المُرْدَانَ جَهْلاً ... مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنِ
صَارَ مِنْ مَالٍ وَإِقْبَا ... لٍ تَرَاهُ فِي أَمَانِ










مصادر و المراجع :

١- مقامات بديع الزمان الهمذاني

المؤلف: أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بديع الزمان الهمذاني (المتوفى: 398هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: المكتبة الأزهرية

عام النشر: 1342 هـ - 1923 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید