المنشورات

المقامة الصنعانية

حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ . وأنْأتْني المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ . طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ . إلى صنْعاء اليَمَنِ . فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ . باديَ الإنْفاضِ . لا أمْلِكُ بُلْغَةً . ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً . فطَفِقْتُ أجوبُ طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ . وأجولُ في حَوْماتِها جَوَلانَ الحائِمِ . وأرُودُ في مَسارحِ لمَحاتي . ومَسايِحِ غدَواتي ورَوْحاتي . كريماً أُخْلِقُ لهُ ديباجَتي . وأبوحُ إلَيْهِ بحاجتي . أو أديباً تُفَرّجُ رؤيَتُه غُمّتي . وتُرْوي رِوايتُه غُلّتي . حتى أدّتْني خاتِمَةُ المَطافِ . وهدَتْني فاتِحةُ الألْطافِ . إلى نادٍ رَحيبٍ . مُحتَوٍ على زِحامٍ ونَحيبٍ . فوَلَجْتُ غابةَ الجمْعِ . لأسْبُرَ مَجْلَبَةَ الدّمْعِ . فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ . شخْصاً شخْتَ الخِلْقَةِ . عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ . وله رنّةُ النِّياحَةِ . وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ . ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ . وقدْ أحاطَتْ بهِ أخلاطُ الزُّمَرِ . إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ . والأكْمامِ بالثّمرِ . فدَلَفْتُ إليهِ لأقْتَبِسَ من فوائِدِه . وألْتَقِطَ بعْضَ فرائِدِه . فسمِعْتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه . وهَدَرَتْ شَقاشِقُ ارتِجالِه . أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ . السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ . الجامِحُ في جَهالاتِهِ . الجانِحُ إلى خُزَعْبِلاتِه . إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ . وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ ؟ وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ . ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ ؟ تُبارِزُ بمَعصِيَتِكَ . مالِكَ ناصِيَتِكَ وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك . على عالِمِ سَريرَتِكَ وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ . وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ . إذا آنَ ارتِحالُكَ ؟ أو يُنْقِذُكَ مالُكَ . حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ . إذا زلّتْ قدَمُكَ ؟ أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ . يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ ؟ هلاّ انتَهَجْتَ مَحَجّةَ اهتِدائِكَ . وعجّلْتَ مُعالجَةَ دائِكَ . وفَلَلْتَ شَباةَ اعتِدائِكَ . وقدَعْتَ نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ ؟ أما الحِمام ميعادُكَ . فما إعدادُكَ ؟ وبالمَشيبِ إنذارُكَ . فما أعذارُكَ ؟ وفي اللّحْدِ مَقيلُكَ . فما قِيلُكَ ؟ وإلى اللّه مَصيرُكَ . فمَن نصيرُكَ ؟ طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ . وجذَبَكَ الوعْظُ فتَقاعَسْتَ وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ . وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ . وأذْكَرَكَ الموتُ فتَناسَيتَ . وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ تُؤثِرُ فِلساً توعِيهِ . على ذِكْرٍ تَعيهِ . وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ . على بِرٍ تُولِيهِ . وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ . إلى زادٍ تَستَهْديهِ . وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ . على ثوابٍ تشْتَريهِ . يَواقيتُ الصِّلاتِ . أعْلَقُ بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ الصّلاةِ . ومُغالاةُ الصَّدُقاتِ . آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ الصَّدَقاتِ . وصِحافُ الألْوانِ . أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ . ودُعابَةُ الأقْرانِ . آنَسُ لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ تأمُرُ بالعُرْفِ وتَنتَهِكُ حِماهُ . وتَحْمي عنِ النُّكْرِ ولا تَتحاماهُ وتُزحزِحُ عنِ الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ . وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ ثمّ أنْشَدَ : 
تباً لطالِبِ دُنْيا . . . ثَنى إلَيها انصِبابَهْ
ما يسْتَفيقُ غَراماً . . . بها وفَرْطَ صَبابَهْ
ولوْ دَرى لَكفَاهُ . . . مما يَرومُ صُبابَهْ ثمّ إنّهُ لبّدَ عَجاجَتَهُ . وغيّضَ مُجاجتَهُ . واعْتَضَدَ شكْوَتَهُ . وتأبّطَ هِراوَتَهُ . فلمّا رنَتِ الجَماعَةُ إلى تحفُّزِهِ . ورأتْ تأهُّبَهُ لمُزايَلَةِ مركَزِهِ . أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ . فأفْعَمَ لهُ سَجْلاً منْ سَيْبِه . وقال : اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ . أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ . فقبِلَهُ منهُم مُغضِياً . وانْثَنى عنْهُم مُثْنِياً . وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ . ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ . ويُسرّبُ منْ يتْبَعُهُ . لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ . قال الحارِثُ بنُ هَمّامٍ : فاتّبعْتُهُ مُوارِياً عنْهُ عِياني . وقَفوْتُ أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني . حتّى انْتَهى إلى مَغارَةٍ . فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ . فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ . وغسَل رِجلَيْهِ . ثمّ هجَمْتُ علَيهِ . فوجدتُهُ مُشافِناً لتِلْميذٍ . على خبْزِ سَميذٍ . وجَدْيٍ حَنيذٍ . وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ . فقلتُ لهُ : يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ . وهذا مَخْبَرَكَ ؟ فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ . وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ . ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ . حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ . فلمّا أن خبَتْ نارُهُ . وتَوارَى أُوارُهُ . أنْشَد :
لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَهْ . . . وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَه
وصيّرتُ وعْظيَ أُحبولَةً . . . أُريغُ القَنيصَ بها والقَنيصَه
وألْجأني الدّهْرُ حتى ولَجْتُ . . . بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه
على أنّني لم أهَبْ صرفَهُ . . . ولا نبَضَتْ لي مِنْهُ فَريصَه
ولا شرَعت بي على مَورِدٍ . . . يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَريصَه
ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكمِهِ . . . لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقيصَه
ثمّ قال ليَ : ادْنُ فكُلْ . وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ . فالتَفَتّ إلى تِلميذِه وقُلتُ : عزَمْتُ عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى . لتُخْبرَنّي مَنْ ذا . فقال : هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء . وتاجُ الأدَباء . فانصرَفْتُ من حيثُ أتيتُ . وقضَيْتُ العجَبَ ممّا رأيْتُ .











مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید