المنشورات

المقامة الدّينارية

رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : نظَمَني وأخْداناً لي نادٍ . لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ . ولا كَبا قدْحُ زِنادٍ . ولا ذكَتْ نارُ عِنادٍ . فبيْنَما نحنُ نتجاذَبُ أطْرافَ الأناشيدِ . ونَتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ . إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ . وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ . فقال : يا أخايِرَ الذّخائِرِ . وبشائِرَ العَشائِرِ . عِموا صَباحاً . وأنْعِموا اصطِباحاً . وانظُروا إلى مَنْ كان ذا نَديّ ونَدًى . وجِدَةٍ وجَداً . وعَقارٍ وقُرًى . ومَقارٍ وقِرًى . فما زالَ بهِ قُطوبُ الخُطوبِ . وحُروبِ الكُروبِ . وشَرَرُ شرِّ الحَسودِ . وانْتِيابُ النّوَبِ السّودِ . حتى صفِرَتِ الرّاحَةُ . وقرِعَتِ الساحَةُ . وغارَ المنْبَعُ . ونَبا المَرْبَعُ . وأقْوى المجْمَعُ . وأقَضّ المضْجَعُ . واستَحالَتِ الحالُ . وأعْوَلَ العِيالُ . وخَلَتِ المَرابِطُ . ورَحِمَ الغابِطُ . وأودى النّاطِقُ والصّامِتُ . ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ . وآلَ بِنا الدّهرُ الموقِعُ . والفَقْرُ المُدْقِعُ . إلى أنِ احْتَذيْنا الوَجى . واغْتذدَينا الشّجا . واستَبْطَنّا الجَوى . وطَوَيْنا الأحْشاءَ على الطّوى . واكْتَحَلْنا السُهادَ . واستَوطَنّا الوِهادَ . واستوطأن القتاد . وتناسينا الأقتاد ، واستطبنا الحين المحتاج واستَبْطأنا اليومَ المُتاحَ . فهل من حُرٍّ آسٍ . أو سمْحٍ مُواسٍ ؟ فوَالّذي استَخْرَجَني من قَيلَه . لقَد أمْسَيتُ أخا عَيْلَه . لا أمْلِكُ بيْتَ ليْلَه . قال الحارِثُ بنُ همّامٍ : فأوَيْتُ لمَفاقِرِه . ولوَطْتُ إلى استِنْباطِ فِقَرِهِ . فأبْرَزتُ ديناراً . وقُلتُ لهُ اختِباراً : إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً . فهوَ لكَ حتْماً . فانْبَرى يُنشِدُ في الحالِ . من غيرِ انتِحال :
أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ . . . جوّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفرَتُهْ
مأثورَةٌ سُمعَتُهُ وشُهرَتُهْ . . . قد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسرّتُهْ
وقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خطرَتُه . . . وحُبِّبَتْ إلى الأنامِ غُرّتُهْ
كأنّما منَ القُلوبِ نُقْرَتُهْ . . . بهِ يصولُ مَنْ حوَتْهُ صُرّتُهْ
وإنْ تَفانَتْ أو توانَتْ عِتْرَتُهْ . . . يا حبّذا نُضارُهُ ونَضْرَتُهْ
وحبّذا مَغْناتُهُ ونصْرَتُهْ . . . كمْ آمِرٍ بهِ استَتَبّتْ إمرَتُهْ
ومُتْرَفٍ لوْلاهُ دمَتْ حسْرَتُهْ . . . وجيْشِ همٍّ هزمَتْهُ كرّتُهْ 
وبدرِ تِمٍّ أنزَلَتْهُ بدْرَتُهْ . . . ومُستَشيطٍ تتلظّى جمْرَتُهْ
أسَرّ نجْواهُ فلانَتْ شِرّتُهْ . . . وكمْ أسيرٍ أسْلمَتْهُ أُسرَتُهْ
أنقَذَهُ حتى صفَتْ مسرّتُهْ . . . وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ فِطْرَتُهْ
لوْلا التُقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ ثم بسَط يدَهُ . بعدَما أنْشدَهُ . وقال : أنْجَزَ حُرٌ ما وعَدَ . وسَحّ خالٌ إذ رَعَدَ . فنبَذْتُ الدّينارَ إليْهِ . وقلتُ : خُذْهُ غيرَ مأسوفٍ علَيْهِ . فوضَعهُ في فيهِ . وقال : بارِك اللهُمّ فيهِ ثمّ شمّرَ للانْثِناء . بعْدَ توفِيَةِ الثّناء . فنشأتْ لي منْ فُكاهَتِه نشوَةُ غرامٍ . سهّلَتْ عليّ ائْتِنافَ اغْتِرامٍ . فجرّدْتُ ديناراً آخَرَ وقلتُ لهُ : هلْ لكَ في أنْ تذُمّهُ . ثم تضُمّهُ ؟ فأنشدَ مُرتَجِلاً . وشَدا عجِلاً :
تبّاً لهُ من خادِعٍ مُماذِقِ . . . أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنافِقِ
يَبدو بوَصْفَينِ لعَينِ الرّامِقِ . . . زينَةِ معْشوقٍ ولوْنِ عاشِقِ
وحُبّهُ عندَ ذَوي الحَقائِقِ . . . يدْعو إلى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ
لوْلاهُ لمْ تُقْطَعْ يَمينُ سارِقِ . . . ولا بدَتْ مظْلِمَةٌ منْ فاسِقِ
ولا اشْمأزّ باخِلٌ منْ طارِقِ . . . ولا شكا المَمطولُ مطلَ العائِق
ِ
ولا استُعيذَ منْ حَسودٍ راشِقِ . . . وشرّ ما فيهِ منَ الخلائِقِ
أنْ ليسَ يُغْني عنْكَ في المَضايِقِ . . . إلاّ إذا فرّ فِرارَ الآبِقِ
واهاً لمَنْ يقْذِفُهُ منْ حالِقِ . . . ومَنْ إذا ناجاهُ نجْوى الوامِقِ
قال لهُ قوْلَ المُحقّ الصّادِقِ . . . لا رأيَ في وصلِكَ لي ففارِقِ
فقلتُ له : ما أغزَرَ وبْلَكَ فقال : والشّرْطُ أمْلَكُ . فنفَحتُهُ بالدّينارِ الثّاني . وقلتُ لهُ : عوّذهُما بالمَثاني . فألْقاهُ في فمِهِ . وقرَنَهُ بتوأمِهِ . وانْكفأ يحمَدُ مغْداهُ . ويمْدَحُ النّاديَ ونَداهُ . قالَ الحارِثُ بنُ همّامٍ : فناجاني قلبي بأنّهُ أبو زيدٍ . وأنّ تعارُجَهُ لِكَيدٍ . فاستَعَدْتُهُ وقلتُ له : قد عُرِفْتَ بوشْيِكَ . فاستَقِمْ في مشيِكَ . فقال : إنْ كُنتَ ابنَ هَمّامٍ . فحُيّيتَ بإكْرامٍ . وحَييتَ بينَ كِرامٍ فقلتُ : أنا الحارثُ . فكيفَ حالُك والحوادِثُ ؟ فقال : أتقلّبُ في الحالَينِ بُؤسٍ ورَخاءٍ . وأنقَلِبُ مع الرّيحَينِ زعْزَعٍ ورُخاءٍ . فقلتُ : كيفَ ادّعَيْتَ القَزَلَ ؟ وما مِثلُكَ مَن هزَلَ . فاستَسَرّ بِشرُهُ الذي كانَ تجلّى . ثمّ أنشَدَ حينَ ولّى :
تعارَجْتُ لا رَغبَةً في العرَجْ . . . ولكِنْ لأقْرَعَ بابَ الفرَجْ
وأُلْقيَ حبْلي على غارِبي . . . وأسلُكَ مسْلَكَ مَن قد مرَجْ
فإنْ لامَني القومُ قلتُ اعذِروا . . . فليسَ على أعْرَجٍ من حرَجْ











مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید