المنشورات

المقامة الدّمياطيّة

أخبَرَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : ظعَنْتُ إلى دُمْياطَ . عامَ هِياطٍ ومِياطٍ . وأنا يومئِذٍ مرْموقُ الرَّخاء . موموقُ الإخاء . أسْحَبُ مَطارِفَ الثّراء . وأجْتَلي معارِفَ السّرّاء . فرافَقْتُ صَحْباً قد شَقّوا عَصا الشِّقاقِ . وارْتَضَعوا أفاوِيقَ الوِفاقِ . حتى لاحُوا كأسْنانِ المُشْطِ في الاستِواء . وكالنّفْسِ الواحِدَةِ في التِئامِ الأهْواء . وكُنّا مع ذلِك نسيرُ النّجاء . ولا نرْحَلُ إلا كُلّ هَوْجاء . وإذا نزَلْنا منزِلاً . أو وَردْنا مَنْهَلاً . اخْتلَسْنا اللُّبْثَ . ولمْ نُطِلِ المُكْثَ . فعنّ لَنا إعْمالُ الرِّكابِ . في ليلةٍ فَتيّةِ الشّبابِ . غُدافيّةِ الإهابِ . فأسرَيْنا إلى أن نَضا اللّيلُ شَبابَهُ . وسلَتَ الصّبحُ خِضابَهُ . فحينَ ملِلْنا السُرَى . ومِلْنا إلى الكَرى . صادَفْنا أرْضاً مُخضَلّةَ الرُّبا . مُعتلّةَ الصَّبا .
فتخيّرْناها مُناخاً للعِيسِ . ومَحطّاً للتّعريسِ . فلمّا حلّها الخَليطُ . وهَدا بها الأطيطُ والغَطيطُ . سمِعْتُ صَيّتاً منَ الرّجالِ . يقولُ لسَميرِه في الرّحالِ : كيفَ حُكْمُ سيرَتِكَ . معَ جيلِكَ وجيرتِكَ ؟ فقال : أرْعَى الجارَ . ولوْ جارَ . وأبذُلُ الوِصالَ . لمَنْ صالَ . وأحْتَمِلُ الخَليطَ . ولوْ أبْدى التّخليطَ . وأودّ الحَميمَ . ولو جرّعَني الحَميمَ . وأفضّلُ الشّفيقَ . على الشّقيقِ . وأفي للعَشيرِ . وإنْ لمْ يُكافئْ بالعَشيرِ . وأستَقِلّ الجَزيلَ . للنّزيلِ . وأغمُرُ الزّميلَ . بالجميلِ . وأنزّلُ سَميري . منزِلَةَ أميري . وأُحِلّ أنيسي . محَلّ رَئيسي . وأُودِعُ مَعارِفي . عَوارِفي . وأُولي مُرافِقي . مَرافقي . وأُلينُ مَقالي . للقالي . وأُديم تَسْآلي . عنِ السّالي . وأرْضى منَ الوَفاء . باللَّفاء . وأقْنَعُ منَ الَجزاء . بأقَلّ الأجزاء . ولا أتظلّمُ . حينَ أُظلَمُ . ولا أنْقَمُ . ولو لدَغَني الأرقَمُ . فقال لهُ صاحبُه : ويْكَ يا بُنيّ إنّما يُضَنّ بالضّنينِ . ويُنافَسُ في الثّمينِ . لكِنْ أنا لا آتي . غيرَ المُؤاتي . ولا أسِمْ العاتي . بمُراعاتي . ولا أُصافي . مَنْ يأبى إنْصافي . ولا أُواخي . مَنْ يُلْغي الأواخي . ولا أُمالي . مَنْ يُخيّبُ آمالي . ولا أُبالي بمَنْ صرَمَ حِبالي . ولا أُداري . مَنْ جهِلَ مِقداري . ولا أُعطي زِمامي . مَنْ يُخْفِرُ ذِمامي . ولا أبْذُلُ وِدادي . لأضْدادي . ولا أدَعُ إيعادي . للمُعادي . ولا أغرِسُ الأيادي . في أرضِ الأعادي . ولا أسمَحُ بمُواساتي . لمَنْ يفْرَحُ بمَساءاتي . ولا أرى التِفاتي . إلى مَن يشْمَتُ بوَفاتي . ولا أخُصّ بحِبائي . إلا أحبّائي . ولا أستَطِبّ لدائي . غيرَ أوِدّائي . ولا أمَلِّكُ خُلّتي . مَنْ لا يسُدّ خَلّتي . ولا أصَفّي نيّتي . لمَنْ يتمنّي منيّتي . ولا أُخْلِصُ دُعائي . لمَنْ لا يُفعِمُ وِعائي . ولا أُفرِغُ ثَنائي . على مَنْ يفْرغُ إنائي . ومنْ حكمَ بأنْ أبذُلَ وتخْزُنَ . وألينَ وتخْشُنَ . وأذوبَ وتجْمُدَ . وأذْكو وتخْمُدَ ؟ لا واللهِ بلْ نتَوازَنُ في المَقالِ . وزْنَ المِثْقالِ . ونَتحاذَى في الفِعالِ . حذْوَ النّعالِ . حتى نأَنَ التّغابُنَ . ونُكْفى التّضاغُنَ . وإلا فلِمَ أعُلّكَ وتُعلّني . وأُقلّكَ وتستَقلّني . وأجتَرِحُ لكَ وتجرَحُني . وأسْرَحُ إليْكَ وتُسرّحُني ؟ وكيف يُجْتَلَبُ إنْصافٌ بضَيْمٍ . وأنّى تُشرِقُ شمْسٌ معَ غيْمٍ ؟ ومتى أُصْحِبَ وُدٌ بعَسْفٍ . وأيّ حُرّ رضيَ بخُطّةِ خسْفٍ ؟ وللهِ أبوكَ حيثُ يقول :
جزَيْتُ مَنْ أعلَقَ بي وُدَّهُ . . . جَزاءَ مَنْ يبْني على أُسّهِ
وكِلْتُ للخِلّ كما كالَ لي . . . على وَفاء الكَيْلِ أو بخْسِهِ
ولمْ أُخَسِّرْهُ وشَرُّ الوَرى . . . مَنْ يوْمُهُ أخْسَرُ منْ أمْسِهِ
وكلُّ منْ يطلُبُ عِندي جَنى . . . فما لهُ إلا جَنى غرْسِهِ
لا أبتَغي الغَبْنَ ولا أنْثَني . . . بصَفقَةِ المغْبونِ في حِسّهِ
ولسْتُ بالموجِبِ حقاً لمَنْ . . . لا يوجِبُ الحقَّ على نفسِهِ
ورُبّ مَذاقِ الهَوى خالَني . . . أصْدُقُهُ الوُدّ على لَبْسِهِ
وما دَرى منْ جهلِهِ أنّني . . . أقْضي غَريمي الدّينَ منْ جِنسِه
فاهجُرْ منِ استَغباكَ هجرَ القِلى . . . وهَبْهُ كالمَلْحودِ في رمْسِهِ
والبَسْ لمَنْ في وصْلِهِ لُبسَةٌ . . . لباسَ مَنْ يُرْغَبُ عنْ أُنسِهِ
ولا تُرَجِّ الوُدَّ ممّنْ يرَى . . . أنّك مُحْتاجٌ إلى فَلْسِهِ
قال الحارثُ بنُ همّام : فلمّا وعَيتُ ما دارَ بينهُما . تُقْتُ إلى أن أعرِفَ عينَهُما . فلمّا لاحَ ابنُ ذُكاء . وألحَفَ الجوَّ الضّياءُ . غدَوْتُ قبلَ استِقلالِ الرّكابِ . ولا اغتِداءَ الغُرابِ . وجعلْتُ أستَقْري صوْبَ الصّوتِ اللّيْليّ . وأتوسّمُ الوُجوهَ بالنّظَرِالجَليّ . إلى أنْ لمحْتُ أبا زيْدٍ وابنَهُ يتحادَثان . وعلَيهِما بُرْدانِ رثّانِ . فعَلِمتُ أنّهُما نجِيّا ليلَتي . ومُعْتَزَى رِوايَتي . فقَصَدْتُهُما قصْدَ كلِفٍ بدَماثَتِهِما . راثٍ لرَثاثَتِهِما . وأبَحْتُهُما التحَوّلَ إلى رحْلي . والتّحكّمَ في كُثْري وقُلّي . وطَفِقْتُ أُسيّرُ بينَ السّيّارةِ فضْلَهُما . وأهُزّ الأعْوادَ المُثمِرَةَ لهُما . إلى أنْ غُمِرا بالنُّحْلانِ . واتُّخِذا منَ الخُلاّنِ . وكُنّا بمعرَّسٍ نتبيّنُ منْهُ بُنْيانَ القُرَى . ونتنوّرُ نيرانَ القِرَى . فلمّا رأى أبو زيدٍ امتِلاءَ كِيسِهِ . وانجِلاءَ بُوسِهِ . قال لي : إنّ بدَني قدِ اتّسَخَ . ودرَني قد رسَخَ . أفتأذَنُ لي في قصْدِ قريَةٍ لأستَحمّ . وأقضيَ هذا المُهِمَّ ؟ فقلتُ : إذا شِئْتَ فالسّرعَةَ السّرْعَهْ . والرّجعَةَ الرّجْعَهْ فقال : ستجِدُ مطْلَعي عليْكَ . أسرَعَ منِ ارْتِدادِ طرْفِكَ إليْكَ . ثمّ استَنّ استِنانَ الجَوادِ في المِضْمارِ . وقال لابْنِهِ : بَدارِ بَدارِ ولمْ نخَلْ أنّهُ غَرَّ . وطلَبَ المفَرّ . فلبِثْنا نرقُبُهُ رِقبَةَ الأعْيادِ . ونستَطلِعُهُ بالطّلائِعِ والرّوّادِ . إلى أنْ هَرِمَ النّهارُ . وكادَ جُرُفُ اليومِ ينْهارُ . فلمّا طالَ أمَدُ الانتِظارِ . ولاحَتِ الشمسُ في الأطْمارِ . قُلتُ لأصْحابي : قد تَناهَيْنا في المُهْلَةِ . وتمادَيْنا في الرّحلَةِ . إلى أنْ أضَعْنا الزّمانَ . وبانَ أنّ الرجُلَ قد مان . فتأهّبوا للظّعَنِ . ولا تَلْووا على خضْراء الدِّمنِ . ونَهَضْتُ لأحدِجَ راحِلَتي . وأتحمّلَ لرِحلَتي . فوجدْتُ أبا زيْدٍ قد كتبَ . على القَتَبِ :
يا مَنْ غَدا لي ساعِداً . . . ومُساعِداً دونَ البَشَرْ
لا تحْسَبَنْ أنّي نأي . . . تُكَ عنْ مَلالٍ أو أشَرْ
لكنّني مُذْ لمْ أزَلْ . . . ممّنْ إذا طَعِمَ انتشَرْ
قال : فأقْرَأتُ الجَماعةَ القتَبَ . ليعْذِرَهُ منْ كان عتَبَ . فأُعجِبوا بخُرافَتِه . وتعوّذوا منْ آفَتِه . ثمّ إنّا ظعَنّا . ولمْ ندْرِ منِ اعتاضَ عنّا .










مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید