المنشورات

المقامة الكوفيّة

حَكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : سمَرْتُ بالكوفَةِ في ليلَةٍ أديمُها ذو لوْنَينِ . وقمرُها كتَعْويذٍ من لُجَينٍ . معَ رُفقَةٍ غُذوا بلِبانِ البَيانِ . وسحَبوا على سَحْبانَ ذيْلَ النّسْيانِ . ما فيهِمْ إلا مَنْ يُحْفَظُ عنْهُ ولا يُتَحفَّظُ منْهُ . ويَميلُ الرّفيقُ إليهِ ولا يَميلُ عنهُ . فاستَهْوانا السّمَرُ . إلى أنْ غرَبَ القمَرُ . وغلَبَ السّهَرُ . فلمّا روّقَ الليْلُ البَهيمُ . ولمْ يبْقَ إلا التّهويمُ . سمِعْنا منَ البابِ نبْأةَ مُستَنْبِحٍ . ثمّ تلَتْها صكّةُ مُستفْتِحٍ . فقُلنا : منِ المُلِمّ . في اللّيلِ المُدْلَهِمّ ؟ فقال :
يا أهلَ ذا المَغْنى وُقيتُمْ شَرّا . . . ولا لَقيتُمْ ما بَقيتُمْ ضُرّا
قدْ دفَعُ الليلُ الذي اكْفَهَرّا . . . إلى ذَراكُمُ شَعِثاً مُغْبَرّا
أخا سِفارٍ طالَ واسْبَطَرّا . . . حتى انْثَنى مُحْقَوْقِفاً مُصْفَرّا
مثلَ هِلالِ الأُفْقِ حينَ افْتَرّا . . . وقد عَرا فِناءكُمْ مُعْتَرّا
وأمَّكُمْ دونَ الأنام طُرّا . . . يبْغي قِرًى منكُمْ ومُستَقَرّا
فَدونَكُمْ ضَيْفاً قَنوعاً حُرّا . . . يرْضَى بما احْلَوْلى وما أمَرّا
وينثَني عنْكُمْ ينُثّ البِرّا قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ : فلمّا خلَبَنا بعُذوبَةِ نُطقِهِ . وعلِمْنا ما وَراء برْقِه . ابتَدَرْنا فتْحَ البابِ . وتلَقّيناهُ بالتّرْحابِ . وقُلْنا للغُلامِ : هيّا هَيّا . وهلُمّ ما تَهيّا فقالَ الضّيفُ : والذي أحَلّني ذَراكُمْ . لا تلَمّظْتُ بقِراكُمْ . أو تَضْمَنوا لي أنْ لا تتّخِذوني كَلاًّ . ولا تجَشّموا لأجْلي أكْلاً . فرُبّ أكْلَةٍ هاضَتِ الآكِلَ . وحرَمَتْهُ مآكِلَ . وشَرُّ الأضْيافِ مَنْ سامَ التّكليفَ . وآذَى المُضيفَ . خُصوصاً أذًى يعْتَلِقُ بالأجْسامِ . ويُفْضي إلى الأسْقامِ . وما قيلَ في المثَلِ الذي سارَ سائِرُهُ : خيرُ العَشاء سَوافِرُهُ . إلا ليُعَجَّلَ التّعَشّي . ويُجْتَنَبَ أكْلُ اللّيلِ الذي يُعْشي . اللهُمّ إلاّ أن تقِدَ نارُ الجوعِ . وتَحولَ دونَ الهُجوعِ . قال : فكأنّهُ اطّلعَ على إرادَتِنا . فرَمى عنْ قوْسِ عَقيدَتِنا . لا جَرَم أنّا آنَسْناهُ بالتِزامِ الشّرْطِ . وأثْنَينا على خُلُقِهِ السّبْطِ . ولمّا أحْضَرَ الغُلامُ ما راجَ . وأذْكى بينَنا السّراجَ . تأمّلتُهُ فإذا هوَ أبو زيْدٍ فقُلتُ لصَحْبي : ليُهْنَأكُمُ الضّيفُ الوارِدُ . بلِ المَغْنَمُ البارِدُ . فإنْ يكُنْ أفَلَ قمَرُ الشِّعْرَى فقدْ طلَعَ قمَرُ الشِّعْرِ . أوِ استَسَرّ بدْرُ النّثْرَةِ فقدْ تبلّجُ بدْرُ النّثْرِ . فسرَتْ حُمَيّا المسَرّةِ فيهِمْ . وطارَتِ السِّنَةُ عنْ مآقِيهِمْ . ورَفَضوا الدَّعَةَالتي كانوا نَوَوْها . وثابُوا إلى نشْرِ الفُكاهَةِ بعْدَما طوَوْها . وأبو زيْدٍ مُكِبٌّ على إعْمالِ يدَيْهِ . حتى إذا استَرْفَعَ ما لدَيْهِ . قلتُ لهُ : أطْرِفْنا بغَريبَةٍ منْ غَرائِبِ أسْمارِكَ . أو عَجيبَةٍ منْ عَجائِبِ أسفارِكَ . فقال : لقدْ بلَوْتُ منَ العَجائِبِ ما لمْ يرَهُ الرّاؤونَ . ولا رواهُ الرّاوونَ . وإنّ منْ أعجبِها ما عايَنْتُهُ الليلَةَ قُبَيلَ انْتِيابِكُمْ . ومَصيري إلى بابِكُمْ . فاستَخْبَرْناهُ عَنْ طُرفَةِ مَرآهُ . في مسرَحِ مسْراهُ . فقال : إنّ مَراميَ الغُربَةِ . لفَظَتْني إلى هذِهِ التُرْبَةِ . وأنا ذو مَجاعَةٍ وبوسَى . وجِرابٍ كفؤادِ أمّ موسَى . فنهَضْتُ حينَ سَجا الدُجى . على ما بي منَ الوَجَى . لأرْتادَ مُضيفاً . أو أقْتادَ رَغيفاً . فساقَني حادِي السّغَبِ . والقضاءُ المُكنّى أبا العجَبِ . إلى أنْ وقفْتُ على بابِ دارٍ . فقلْتُ على بِدارٍ :
حُييتُمُ يا أهلَ هذا المنزِلِ . . . وعِشتُمُ في خفضِ عيشٍ خضِلِ
ما عندكُمْ لابنِ سَبيلٍ مُرمِلِ . . . نِضْوِ سُرًى خابِطِ ليْلٍ ألْيَلِ
جَوِي الحَشى على الطّوى مُشتَمِلِ . . . ما ذاقَ مذْ يومانِ طعمَ مأكَلِ
ولا لهُ في أرضِكُمْ منْ مَوْئِلِ . . . وقد دَجا جُنْحُ الظّلامِ المُسبِلِ
وهْوَ منَ الحَيرَةِ في تملْمُلِ . . . فهلْ بهَذا الرَّبعِ عذبُ المنهَلِ
يقول لي : ألْقِ عَصاكَ وادخُلِ . . . وابْشَرْ ببِشْرٍ وقِرًى مُعجَّلِ
قال : فبرزَ إليّ جَوْذَرٌ . عليهِ شَوْذَرٌ . وقال :
وحُرمَةِ الشّيخِ الذي سنّ القِرَى . . . وأسّسَ المحْجوجَ في أُمّ القُرَى
ما عِندَنا لِطارِقٍ إذا عَرا . . . سوى الحديثِ والمُناخِ في الذَّرَى
وكيفَ يقْري مَنْ نَفى عنه الكَرى . . . طوًى برَى أعظُمَهُ لمّا انْبَرى
فما تَرى فيما ذكرتُ ما تَرى فقُلتُ : ما أصْنَعُ بمنزِلٍ قَفرٍ . ومُنزِلٍ حِلفِ فَقْرِ ؟ ولكِنْ يا فَتى ما اسمُكَ . فقدْ فتَنَني فهْمُكَ ؟ فقال : اسمي زيْدٌ . ومَنشإي فَيْدٌ . ووَردتُ هذِهِ المَدَرَةَ أمْسِ . معَ أخْوالي منْ بَني عبْسٍ . فقلتُ لهُ : زِدْني إيضاحاً عِشْتَ . ونُعِشْتَ فقال : أخبرَتْني أمّي بَرّةُ . وهيَ كاسْمِها برّةٌ . أنّها نكَحَتْ عامَ الغارَةِ بماوانَ . رجُلاً من سَراةِ سَروجَ وغسّانَ . فلمّا آنَسَ منْها الإثْقال . وكان باقِعةً على ما يُقال . ظعَنَ عنْها سِرّاً . وهَلُمّ جَرّاً . فما يُعْرَفُ أحَيٌ هوَ فيُتوَقّعَ . أم أودِعَ اللّحْدَ البَلْقَعَ ؟ قال أبو زيْدٍ : فعلِمْتُ بصِحّةِ العَلاماتِ أنّه ولَدي . وصدَفَني عنِ التّعرُّفِ إليْهِ صَفْرُ يدي . ففصَلْتُ عنْهُ بكَبِدٍ مرْضوضَةٍ . ودُموعٍ مفْضوضةٍ . فهلْ سمِعْتُمْ يا أولي الألْبابِ . بأعْجَبَ منْ هذا العُجابِ ؟ فقُلْنا : لا ومَنْ عندَهُ عِلمُ الكِتابِ . فقال : أثْبِتوها في عَجائِبِ الاتّفاقِ . وخلِّدوها بُطونَ الأوْراقِ . فما سُيّرَ مثلُها في الآفاقِ . فأحْضَرْنا الدّواةَ وأساوِدَها . ورَقَشْنا الحِكايَةَ على ما سرَدَها . ثمّ اسْتَبْطنّاهُ عنْ مُرْتآهُ . في استِضْمام فَتاهُ . فقالَ : إذا ثَقُلَ رُدْني . خَفّ عليّ أنْ أكْفُلَ ابْني . فقُلنا : إنْ كان يكْفيكَ نِصابٌ منَ المالِ . ألّفناهُ لكَ في الحالِ . فقالَ : وكيْفَ لا يُقْنِعُني نِصابٌ . وهلْ يحتَقِرُ قدْرَهُ إلا مُصابٌ ؟ قالَ الرّاوي : فالتَزَمَ منْهُ كلٌ منّا قِسطاً . وكتبَ له بِهِ قِطّاً . فشَكرَ عندَ ذلِك الصُنْعَ . واستَنْفَدَ في الثّناء الوُسْعَ . حتى إنّنا اسْتَطلْنا القوْلَ . واستَقلَلْنا الطَّوْلَ . ثمّ إنّهُ نشَرَ منْ وشْيِ السّمَرِ . ما أزْرَى بالحِبَرِ . إلى أنْ أظَلّ التّنْويرُ . وجَشَرَ الصبْحُ المُنيرُ . فقضَيْناها ليلَةً غابَتْ شوائِبُها . إلى أنْ شابَتْ ذَوائِبُها . وكمُلَ سُعودُها . إلى أنِ انْفطَرَ عودُها . ولمّا ذَرّ قرْنُ الغَزالَةِ . طمرَ طُمورَ الغَزالَةِ . وقال : انْهَضْ بِنا لنَقبِضَ الصِّباتِ . ونستَنِضَّ الإحالاتِ . فقَدِ اسْتَطارَتْ صُدوعُ كَبِدي . منَ الحَنينِ إلى ولَدِي . فوَصَلتُ جَناحَهُ . حتى سَنّيتُ نَجاحَهُ . فحينَ أحْرَزَ العَينَ في صرّتِه . فرَقَتْ أساريرُ مسرّتِهِ . وقال لي : جُزيتَ خَيراً عنْ خُطا قدَمَيكَ . واللهُ خَليفَتي علَيْكَ . فقُلتُ : أُريدُ أن أتّبِعَكَ لأشاهِدَ ولَدَك النّجيبَ . وأُنافِثَهُ لكَيْ يُجيبَ . فنظَرَ إليّ نظْرَةَ الخادِعِ إلى المَخْدوعِ . وضحِكَ حتى تغَرْغَرَتْ مُقلَتاهُ بالدّموعِ . وأنشَدَ :
يا مَنْ يظَنّى السّرابَ ماءً . . . لمّا روَيْتُ الذي روَيْتُ
ما خِلْتُ أنْ يستَسِرّ مَكري . . . وأنْ يُخيلَ الذي عنَيْتُ
واللهِ ما بَرّةٌ بعِرْسي . . . ولا ليَ ابنٌ بِهِ اكتَنَيْتُ
وإنّما لي فُنونُ سِحرٍ . . . أبدَعْتُ فيها وما اقتَدَيتُ
لمْ يحْكِها الأصمَعيُّ فيما . . . حكَى ولا حاكَها الكُمَيتُ
تَخِذْتُها وُصلَةً إلى ما . . . تَجْنيهِ كَفّي متى اشتَهَيْتُ
ولوْ تَعافَيتُها لحالَتْ . . . حالي ولمْ أحْوِ ما حوَيْتُ
فمهّدِ العُذْرَ أو فسامِحْ . . . إنْ كُنتُ أجرَمْتُ أو جنَيْتُ
ثمّ إنّه ودّعني ومَضى . وأوْدَعَ قلْبي جمْرَ الغَضا .












مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید