المنشورات

المقامة البَرْقَعيديّة

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : أزْمَعْتُ الشّخوصَ منْ بَرْقَعيدَ . وقد شِمْتُ برْقَ عِيدٍ . فكرِهتُ الرّحلةَ عنْ تلكَ المَدينَةِ . أو أشهَدَ بها يوْمَ الزّينَةِ . فلمّا أظَلّ بفَرْضِهِ ونفْلِهِ . وأجْلَبَ بخَيْلِهِ ورَجْلِهِ . اتّبَعْتُ السُنّةَ في لُبسِ الجَديدِ . وبرَزْتُ معَ مَنْ برَزَللتّعييدِ .
وحينَ التَأمَ جمْعُ المُصَلّى وانْتَظَمَ . وأخذَ الزِّحامُ بالكَظَمِ . طلَعَ شيخٌ في شمْلَتَينِ . محْجوبُ المُقلتَيْنِ . وقدِ اعْتَضَدَ شِبْهُ المِخْلاةِ . واسْتَقادَ لعَجوزٍ كالسِّعْلاةِ . فوقَفَ وِقْفَة مُتهافِتٍ . وحيّا تحيّةَ خافِتٍ . ولمّا فرَغَ منْ دُعائِهِ . أجالَ خَمْسَهُ في وِعائِهِ . فأبْرَزَ منْهُ رِقاعاً قدْ كُتِبنَ بألوانِ الأصْباغِ . في أوانِ الفَراغِ . فناوَلَهُنّ عَجوزَهُ الحَيْزَبونَ . وأمرَها بأنْ تتوسّمَ الزَّبونَ . فمَنْ آنسَتْ نَدى يدَيْهِ . ألْقَتْ ورَقَةً منهُنّ لدَيْهِ . فأتاحَ ليَ القدَرُ المعْتوبُ . رُقْعَةً فيها مكْتوبٌ :
لقَدْ أصبَحْتُ موقوذاً . . . بأوجاعٍ وأوْجالِ
ومَمْنُواً بمُخْتالٍ . . . ومُحْتالٍ ومُغْتالِ
وخَوّانٍ منَ الإخْوا . . . نِ قالٍ لي لإقْلالي
وإعْمالٍ منَ العُمّا . . . لِ في تضْليعِ أعْمالي
فكمْ أُصْلي بإذحالٍ . . . وإمْحالٍ وترْحالِ
وكَمْ أخْطِرُ في بالٍ . . . ولا أخْطُرُ في بال
ِ
فلَيْتَ الدّهْرَ لمّا جا . . . رَ أطْفا ليَ أطْفالي
فلَوْلا أنّ أشْبا . . . ليَ أغْلالي وأعْلالي
لَما جهّزْتُ آمالي . . . إلى آلٍ ولا والي
ولا جرّرْتُ أذْيالي . . . على مَسْحَبِ إذْلالي
فمِحْرابيَ أحْرَى بي . . . وأسْماليَ أسْمَى لي
فهلْ حُرٌ يَرى تخْفي . . . فَ أثْقالي بمِثْقالِ
ويُطْفي حَرَّ بَلْبالي . . . بسِرْبالٍ وسِرْوالِ
قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ : فلما استَعْرَضْتُ حُلةَ الأبْياتِ تُقْتُ إلى معرِفَةِ مُلْحِمِها . وراقِمِ علَمِها . فناجاني الفِكْرُ بأنّ الوُصْلَةَ إلَيْهِ العَجوزُ . وأفْتاني بأنّ حُلوانَ المُعرِّفِ يَجوزُ . فرَصَدْتُها وهيَ تستَقْري الصّفوفَ صَفّاً صَفاً . وتستَوكِفُ الأكُفَّ كفّاً كفاً . وما إنْ ينْجَحُ له عَناءٌ . ولا يرْشَحُ على يدِها إناءٌ . فلما أكْدى استِعْطافُها . وكدّها مَطافُها . عاذَتْ بالاسْتِرْجاعِ . ومالَتْ إلى إرجاعِ الرِّقاعِ . وأنْساها الشيْطانُ ذِكْرَ رُقْعَتي . فلمْ تعُجْ إلى بُقْعَتي . وآلَتْ إلى الشيْخِ باكيةً للحِرْمانِ . شاكِيةً تحامُلَ الزّمانِ . فقالَ : إنّا للهِ . وأفوّضُ أمْري إلى اللهِ . ولا حوْلَ ولا قوّةَ إلا باللهِ . ثمّ أنْشَدَ :
لمْ يبْقَ صافٍ ولا مُصافٍ . . . ولا مَعينٌ ولا مُعينُ
وفي المَساوي بَدا التّساوي . . . فلا أمينٌ ولا ثَمينُ ثم قال لها : مَنّي النّفْسَ وعِديها . واجْمَعي الرِّقاعَ وعُدّيها . فقالَتْ : لقدْ عدَدْتُها . لمّا استَعَدْتُها . فوجَدْتُ يدَ الضّياعِ . قد غالَتْ إحْدى الرِّقاعِ . فقال : تعْساً لكِ يا لَكاعِ أنُحْرَمُ ويْحَكِ القنَصَ والحِبالَةَ . والقَبَسَ والذُبالةَ ؟ إنّها لضِغْثٌ على إبّالَةٍ فانْصاعَتْ تقْتَصّ مَدْرَجَها . وتَنْشُدُ مُدْرَجَها . فلمّا دانَتْني قرَنْتُ بالرُقعَةِ . دِرْهَماً وقِطْعَةً . وقلتُ لها : إنْ رَغِبتِ في المَشوفِ المُعْلَمِ . وأشَرْتُ إلى الدّرهَمِ . فَبوحي بالسّرّ المُبهَمِ . وإنْ أبَيْتِ أنْ تشْرَحي . فخُذي القِطعَةَ واسرَحي . فمالَتْ إلى استِخْلاصِ البدْرِ التِّمّ . 
والأبلَجِ الهِمّ . وقالتْ : دعْ جِدالَكَ . وسَلْ عمّا بَدا لَكَ . فاستَطْلَعْتُها طِلْعَ الشّيخٍ وبَلْدَتِهِ . والشِّعْرِ وناسِجِ بُرْدَتِه . فقالَتْ : إنّ الشيخَ من أهلِ سَروجَ . وهوَ الذي وشّى الشّعرَ المَنسوجَ . ثمّ خَطِفَتِ الدّرْهمَ خَطفَةَ الباشِقِ . ومرَقَتْ مُروقَ السّهْمِ الرّاشِقِ . فخالَجَ قلْبي أنّ أبا زيْدٍ هوَ المُشارُ إليْهِ . وتأجّجَ كرْبي لمُصابِهِ بناظِرَيْهِ . وآثرْتُ أنْ أُفاجِيهِ وأناجيهِ . لأعْجُمَ عودَ فِراسَتي فيه . وما كُنتُ لأصِلَ إليْهِ إلا بتَخطّي رِقابِ الجمْعِ . المَنْهيّ عنْهُ في الشّرْعِ . وعِفْتُ أنْ يتأذّى بي قوْمٌ . أو يسْري إليّ لوْمٌ . فسَدِكْتُ بمَكاني . وجعلْتُ شخْصَهُ قيْدَ عِياني . إلى أنِ انْقضَتِ الخُطبَةُ . وحقّتِ الوثْبَةُ . فخفَفْتُ إليْهِ . وتوسّمْتُهُ على التِحامِ جَفنَيْهِ . فإذا ألمَعيّتي ألمَعيّةُ ابنِ عبّاسٍ . وفِراسَتي فِراسَةُ إياسٍ . فعرّفتُهُ حينَئِذٍ شخْصي . وآثَرْتُه بأحَدِ قُمْصي . وأهَبْتُ بهِ إلى قُرْصي . فهشّ لعارِفَتي وعِرْفاني . ولبّى دعْوَةَ رُغْفاني . وانْطَلَقَ ويَدي زِمامُهُ . وظلّي إمامُهُ . والعجوزُ ثالثَةُ الأثافي . والرّقيبُ الذي لا يَخْفَى عليْهِ خافي . فلمّا استَحْلَسَ وُكْنَتي . وأحضَرْتُهُ عُجالَةَ مُكْنَتي . قال لي : يا حارِثُ . أمَعَنا ثالِثٌ ؟ فقلتُ : ليسَ إلا العَجوزُ . قال : ما دونَها سِرٌ محْجوزٌ . ثمّ فتَحَ كريمَتَيْهِ . ورأرَأ بتوْأمَتَيهِ . فإذا سِراجا وجْهِهِ يقِدانِ . كأنّهُما الفَرْقَدانِ . فابْتَهَجْتُ بسَلامَةِ بصَرِهِ . وعجِبْتُ منْ غَرائِبِ سِيَرِهِ . ولمْ يُلْقِني قَرارٌ . ولا طاوَعَني اصْطِبارٌ . حتى سألْتُهُ : ما دَعاكَ إلى التّعامي . معَ سيرِكَ في المَعامي . وجوْبِكَ المَوامي . وإيغالِكَ في المَرامي ؟ فتَظاهَرَ باللُّكْنَةِ . وتشاغَلَ باللُّهْنَةِ . حتى إذا قَضى وطَرَهُ . أتْأرَ إليّ نظَرَهُ . وأنشَدَ :
ولمّا تَعامى الدّهرُ وهْوَ أبو الوَرى . . . عنِ الرُشْدِ في أنحائِهِ ومقاصِدِهْ
تعامَيتُ حى قيلَ إني أخو عَمًى . . . ولا غَرْوَ أن يحذو الفتى حَذوَ والِدهْ
ثمّ قال لي : انْهَضْ إلى المُخدَعِ فأتِني بغَسولٍ يَروقُ الطّرْفَ . ويُنْقي الكَفَّ . وينعِّمُ البَشَرةَ . ويُعطِّرُ النّكهَةَ . ويشُدّ اللّثَةَ . ويقوّي المَعِدَةَ . ولْيَكُنْ نَظيفَ الظَّرْفِ . أريجَ العَرْفِ . فتيَّ الدّقِّ . ناعِمَ السّحْقِ . يحسَبُهُ اللاّمِسُ ذَروراً . ويَخالُهُ الناشِقُ كافوراً . واقْرُنْ بهِ خِلالَةً نقيّةَ الأصْلِ . محبوبَةَ الوصْلِ . أنيقَةَ الشّكلِ . مَدْعاةً إلى الأكْلِ . لها نَحافَةُ الصّبّ . وصَقالَةُ العَضْبِ . وآلَةُ الحرْبِ . ولُدونَةُ الغُصْنِ الرّطْبِ . قال : فنَهضْتُ فيما أمَرَ . لأدْرَأَ عنْهُ الغَمَرَ . ولمْ أهِمْ إلى أنّهُ قصَدَ أنْ يَخْدَعَ . بإدْخاليَ المُخدَعَ . ولا تظنّيْتُ أنّهُ سخِرَ منَ الرّسولِ . في استِدْعاء الخِلالَةِ والغَسولِ . فلمّا عُدْتُ بالمُلتَمَسِ . في أقرَبَ منْ رجْعِ النّفَسِ . وجدْتُ الجوّ قدْ خَلا . والشيْخَ والشيْخَةَ قد أجْفَلا . فاستَشَطْتُ منْ مَكْرِهِ غضَباً . وأوْغَلتُ في إثْرِهِ طلَباً . فكانَ كمَنْ قُمِسَ في الماء . أو عُرِجَ بهِ إلى عَنانِ السّماء .










مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید