المنشورات

المقامة الرّحبيّة

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : هتَفَ بي داعي الشّوْقِ . إلى رَحبَةِ مالِكِ بن طَوْقٍ . فلبّيتُهُ مُمتَطِياً شِمِلّةً . ومُنتَضياً عَزْمَةً مُشمَعِلّةً . فلمّا ألقيتُ به المَراشي . وشدَدْتُ أمراسي . وبرَزْتُ منَ الحَمّام بعدَ سبتِ راسي . رأيتُ غُلاماً أُفرِغَ في قالَبِ الجَمالِ . وأُلبِسَ من الحُسنِ حُلّةَ الكَمال . وقدِ اعْتَلَقَ شيخٌ برُدْنِهِ . يدّعي أنّهُ فتَك بابنِه . والغُلامُ يُنكِرُ عِرفَتَهُ . ويُكْبِرُ قِرفَتهُ . والخِصامُ بينَهُما مُتطايِرُ الشَّرارِ . والزِّحامُ عليهِما يجمَعُ بين الأخيارِ والأشرارِ . إلى أن تَراضَيا بعْد اشتِطاطِ اللّدَد . بالتّنافُرِ إلى والي البلَدِ . وكان ممّن يُزَنّ بالهَناتِ . ويغلِّبُ حُبَّ البَنين على البَناتِ . فأسْرَعا إلى ندْوَتِه . كالسُّلَيْكِ في عَدْوَتِه . فلمّا حضَراه . جدّدَ الشيخُ دعْواهُ . واستَدْعى عدْواهُ . فاستَنطَقَ الغُلامَ وقدْ فتَنَهُ بمحاسِنِ غُرّتِه . وطَرَّ عقلَهُ بتصْفيفِ طُرّتِهِ . فقالَ : إنّه أفيكَةُ أفّاكٍ . علِ غيرِ سفّاكٍ وعَضيهَةُ مُحْتالٍ . على منْ ليس بمُغْتالٍ . فقال الوالي للشّيخ : إنْ شهِدَ لكَ عدْلانِ منَ المُسلِمين . وإلا فاسْتَوْفِ منهُ اليَمينَ . فقال الشيخُ : إنّهُ جدّلَهُ خاسياً . وأفاحَ دمَهُ خالِياً . فأنّى لي شاهِدٌ . ولم يكُنْ ثَمّ مُشاهِدٌ ؟ ولكِنْ ولّني تلْقينَهُ اليَمينَ . ليَبينَ لكَ أيصْدُقُ أم يَمينُ ؟ فقال لهُ : أنتَ المالِك لذلك . معَ وجْدِكَ المُتَهالِك . على ابنِكِ الهالِك . فقال الشيخُ للغُلام : قُلْ والذي زيّن الجِباهَ بالطُّرَرِ . والعُيونَ بالحَوَرِ . والحَواجِبَ بالبَلَجِ . والمباسمَ بالفلَجِ . والجُفونَ بالسّقَمِ . والأنوفَ بالشّمَمِ . والخُدودَ باللّهَبِ . والثّغورَ بالشّنَبِ . والبَنانَ بالتّرَفِ . والخُصورَ بالهيَفِ . إنّني ما قتَلْتُ ابْنَكَ سهْواً ولا عمْداً . ولا جعلْتُ هامَتَهُ لسَيْفي غِمْداً . وإلا فرَمى اللهُ جَفْني بالعمَشِ . وخدّي بالنّمَشِ . وطُرّتي بالجلَحِ . وطَلْعي بالبَلَحِ . ووَرْدَتي بالبَهارِ . ومِسْكَتي بالبُخارِ . وبَدْري بالمُحاقِ . وفِضّتي بالاحْتِراقِ . وشُعاعي بالإظْلامِ . ودَواتي بالأقْلامِ . فقالَ الغُلامُ : الاصْطِلاءَ بالبَليّةِ . ولا الإيلاءَ بهذِه الألِيّةِ . والانقِيادَ للقَوَدِ . ولا الحَلِفَ بما لمْ يحلِفْ بهِ أحدٌ . وأبى الشيخُ إلا تجْريعَهُ اليَمينَ التي اخترَعَها . وأمْقَرَ لهُ جُرَعَها . ولم يزَلِ التّلاحي بينَهُما يستَعِرُ . ومَحجّةُ التّراضي تعِرُ . والغُلامُ في ضِمْنِ تأبّيهِ . يخْلُبُ قلْبَ الوالي بتلوّيهِ . ويُطْمِعُهُ في أنْ يلبّيهِ . إلى أن رانَ هَواهُ على قلْبِهِ . وألَبّ بلُبّهِ . فسوّلَ لهُ الوجدُ الذي تيّمَهُ . والطّمَعُ الذي توَهّمَهُ . أنْ يُخلّصَ الغُلامَ ويستخلِصَهُ . وأن يُنقِذَهُ من حِبالَةِ الشيخِ ثمّ يقتَنِصَهُ . فقال للشيخِ : هلْ لكَ فيما هوَ ألْيَقُ بالأقْوى . وأقرَبُ للتّقْوى ؟ فقالَ : إلمَ تُشيرُ لأقْتَفيهِ . ولا أقِفُ لكَ فيهِ . فقال : أرى أنْ تُقصِرَ عنِ القِيلِ والقالِ . وتقتَصِرَ منهُ على مئَةِ مِثْقالٍ . لأتحمّلَ منْها بعْضاً . وأجْتَبي الباقيَ لكَ عُرْضاً . فقالَ الشيخُ : ما مِني خِلافٌ . فلا يكُنْ لوعدِكَ إخْلافٌ . فنقَدَهُ الوالي عِشرينَ . ووزّعَ على وزَعَتِه تكْمِلَةَ خمْسينَ . ورقّ ثوْبُ الأصيلِ . وانقطَعَ لأجْلِهِ صوْبُ التّحصيلِ . فقالَ : خُذْ ما راجَ . ودَعْ عنْكَ اللّجاجَ . وعليّ في غدٍ أنْ أتوصّلَ . إلى أن ينِضّ لكَ الباقي ويتحصّلَ . فقال الشيخُ : أقْبَلُ منْكَ على أنْ ألازمَهُ ليْلَتي . ويرْعاهُ إنْسانُ مُقلَتي . حتى إذا أعْفى بعْدَ إسْفارِ الصّبحِ . بِما بَقيَ منْ مالِ الصّلْحِ . تخلّصَتْ قائِبَةٌ من قُوبٍ . وبَرِئَ بَراءةَ الذّئْبِ منْ دمِ ابنِ يعْقوبَ . فقالَ لهُ الوالي : ما أُراكَ سفمْتَ شَططاً . ولا رُمْتَ فرَطاً . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فلمّا رأيتُ حُجَجَ الشيخِ كالحُجَجِ السُرَيجيّةِ . علِمتُ أنه علَمُ السَّروجيّةِ . فلبِثْتُ إلى أن زهَرَتْ نُجوم الظّلام . وانتَثَرتْ عُقودُ الزّحامِ . ثمّ قصَدْتُ فِناء الوالي . فإذا الشيخُ للفتى كالي . فنَشَدْتُه اللهَ أهُوَ أبو زيدٍ ؟ فقال : أيْ ومُحِلّ الصّيدِ . فقُلتُ : مَنْ هذا الغُلامُ . الذي هفَتْ لهُ الأحْلامُ ؟ قال : هوَ في النسبِ فرْخي . وفي المكتَسَبِ فخّي قلت : فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه . وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه ؟ فقال : لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ . لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ . ثمّ قال : بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى . ونُديلَ الهَوى . من النّوى . فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ . وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ قال : فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ . آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ . وخَميلةِ شجَرٍ . حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ . وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ . ركِبَ متْنَ الطّريقِ . وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ . وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ . رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ . وقال : ادْفَعْها إلى الوالي إذا سُلِبَ القَرار . وتحقّقَ منّا الفِرارَ . ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ . منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ . فإذا فيها مكتوبٌ : مكتَسَبِ فخّي قلت : فهَلاّ اكتفَيْتَ بمَحاسِنِ فِطرَتِه . وكفَيتَ الواليَ الافتِتان بطُرّتِه ؟ فقال : لوْ لمْ تُبرِزْ جبْهَتُهُ السّينَ . لَما قنْفَشْتُ الخمسينَ . ثمّ قال : بِتِ الليلَةَ عِندي لنُطْفئ نارَ الجَوى . ونُديلَ الهَوى . من النّوى . فقدْ أجْمَعْتُ على أنْ أنْسَلّ بسُحرَةٍ . وأُصْليَ قلبَ الوالي نارَ حسْرَةٍ قال : فقَضَيتُ الليلةَ معَهُ في سمَرٍ . آنَقَ منْ حَديقَةِ زهَرٍ . وخَميلةِ شجَرٍ . حتى إذا لألأ الأفُقَ ذنَبُ السِّرْحانِ . وآنَ انبِلاجُ الفجْرِ وحانَ . ركِبَ متْنَ الطّريقِ . وأذاقَ الوالي عذابَ الحريقِ . وسلّمَ إليّ ساعَة الفِراقِ . رُقعَةً مُحكمَةَ الإلْصاقِ . وقال : ادْفَعْها إلى الوالي إذا سُلِبَ القَرار . وتحقّقَ منّا الفِرارَ . ففضَضْتُها فِعْلَ المتملّسِ . منْ مِثلِ صحيفَةِ المتلمّسِ . فإذا فيها مكتوبٌ :
قُلْ لوالٍ غادَرْتُه بعْدَ بيْني . . . سادِماً نادِماً يعَضّ اليَدَيْنِ
سلَبَ الشيخُ مالهُ وفتاهُ . . . لُبَّهُ فاصْطَلى لَظى حسْرَتَيْنِ
جادَ بالعينِ حينَ أعمى هواهُ . . . عينَهُ فانْثَنى بِلا عينَينِ
خفِّضِ الحُزنَ يا مُعَنّى فما يُجْ . . . دي طِلابُ الآثارِ من بعدِ عَينِ
ولَئِنْ جَلّ ما عَراكَ كما ج . . . لّ لدى المُسلِمينَ رُزْءُ الحُسينِ
فقَدِ اعتَضْتَ منهُ فَهماً وحزْماً . . . واللّبيبُ الأريبُ يبْغيَ ذَينِ
فاعصِ من بعدها المَطامعَ واعلَمْ . . . أنّ صيْدَ الظّباء ليس بهَينِ
لا ولا كُلّ طائِرٍ يلِجُ الفَخّ . . . ولوْ كانَ مُحدَقاً باللُجَينِ
ولَكَمْ مَنْ سعى ليَصْطادَ فاصْطي . . . دَ ولك يلْقَ غيرَ خُفّي حُنينِ
فتبصّرْ ولا تشِمْ كلّ برْقٍ . . . رُبّ برْقٍ فيهِ صواعِقُ حَينِ
واغضُضِ الطّرْفَ تسترحْ من غرامٍ . . . تكتَسي فيهِ ثوْبَ ذُلٍ وشَينِ
فبَلاءُ الفتى اتّباعُ هوَى النّف . . . سِ وبذْرُ الهَوى طُموحُ العينِ
قال الرّاوي : فمزّقتُ رُقعتَهُ شذَرَ مذَرَ . ولمْ أُبَلْ أعَذَلَ أم عذَرَ .









مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید