المنشورات

المقامة السّاويّة

حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال : آنَسْتُ منْ قلْبي القَساوَةَ . حينَ حللْتُ ساوَةَ . فأخذْتُ بالخبَرِ المأثورِ . في مُداواتِها بزِيارَةِ القُبورِ . فلمّا صِرْتُ إلى محلّةِ الأمْواتِ . وكِفاتِ الرُفاتِ . رأيتُ جمْعاً على قبْرٍ يُحْفَرُ . ومجْنوزٍ يُقبَرُ . فانْحَزْتُ إليْهِمْ متفكّراً في المآلِ . متذكّراً مَنْ درجَ منَ الآلِ . فلما ألحَدوا المَيْتَ . وفاتَ قوْلُ لَيْتَ . أشرفَ شيخٌ من رُباوَةٍ . متخصّراً بهِراوَةٍ . وقدْ لفّعَ وجهَه برِدائِهِ . ونكّر شخْصَهُ لدَهائِهِ . فقال : لمِثْلِ هذا فلْيَعْمَلِ العامِلونَ . فادّكِروا أيّها الغافِلونَ . وشمِّروا أيّها المقَصّرونَ . وأحْسِنوا النّظَرَ أيه المتبصّرونَ ما لكُمْ لا يَحْزُنُكمْ دفْنُ الأتْرابِ . ولا يهولُكُمْ هيْلُ التّرابِ ؟ ولا تعْبأونَ بنَوازِلِ الأحْداثِ . ولا تستَعِدّونَ لنُزولِ الأجْداثِ ؟ ولا تستعْبِرونَ لعَينٍ تدْمَعُ . ولا تعتَبرونَ بنَعْيٍ يُسمَعُ ؟ ولا ترْتاعونَ لإلْفٍ يُفقَدُ . ولا تلْتاعونَ لمناحَةٍ تُعْقَدُ ؟ يشيِّعُ أحدُكُمْ نعْشَ الميْتِ . وقلْبُهُ تِلْقاءَ البيتِ . ويشهَدُ مُواراةَ نسيبِه . وفِكْرُهُ في استِخْلاصِ نصيبِه . ويُخَلّي بينَ وَدودِه ودُودِه . ثمّ يخْلو بمِزْمارِهِ وعودِهِ . طالَما أسِيتُمْ على انْثِلامِ الحَبّةِ . وتناسَيتُمُ اخْتِرامَ الأحبّةِ . واستَكَنْتُمْ لاعتِراضِ العُسرةِ . واستَهَنْتُمْ بانقِراضِ الأُسرَةِ . وضحِكْتُمْ عندَ الدّفْنِ . ولا ضحِكَكُمْ ساعةَ الزَّفْنِ . وتبخْتَرْتُمْ خلفَ الجنائِزِ . ولا تبخْتُرَكُمْ يومَ قبْضِ الجوائِزِ . وأعْرَضْتُمْ عنْ تعْديدِ النّوادِبِ . إلى إعْدادِ المآدِبِ . وعنْ تحرُّقِ الثّواكِلِ . إلى التّأنُّقِ في المآكِلِ . لا تُبالونَ بمَنْ هوَ بالٍ . ولا تُخْطِرونَ ذِكرَ الموتِ ببالٍ . حتى كأنّكُمْ قد علِقتُمْ منَ الحِمامِ . بذِمامٍ . أو حصَلْتُمْ منَ الزّمانِ . على أمانٍ . أو وثِقْتُمْ بسلامةِ الذّاتِ . أو تحقّقْتُمْ مُسالَمَة هادِمِ اللّذّاتِ . كَلاّ ساء ما تتوهّمونَ . ثمّ كلاّ سوفَ تعلَمونَ ثمّ أنشدَ :
أيا مَن يدّعي الفَهْمْ . . . إلى كمْ يا أخا الوَهْمْ
تُعبّي الذّنْبَ والذمّ . . . وتُخْطي الخَطأ الجَمّ
أمَا بانَ لكَ العيْبْ . . . أمَا أنْذرَكَ الشّيبْ
وما في نُصحِهِ ريْبْ . . . ولا سمْعُكَ قدْ صمّ
أمَا نادَى بكَ الموتْ . . . أمَا أسْمَعَك الصّوْتْ
أما تخشَى من الفَوْتْ . . . فتَحْتاطَ وتهتمْ
فكمْ تسدَرُ في السهْوْ . . . وتختالُ من الزهْوْ
وتنْصَبُّ إلى اللّهوْ . . . كأنّ الموتَ ما عَمّ
وحَتّام تَجافيكْ . . . وإبْطاءُ تلافيكْ
طِباعاً جمْعتْ فيكْ . . . عُيوباً شمْلُها انْضَمّ
إذا أسخَطْتَ موْلاكْ . . . فَما تقْلَقُ منْ ذاكْ
وإنْ أخفَقَ مسعاكْ . . . تلظّيتَ منَ الهمّ
وإنْ لاحَ لكَ النّقشْ . . . منَ الأصفَرِ تهتَشّ
وإن مرّ بك النّعشْ . . . تغامَمْتَ ولا غمّ
تُعاصي النّاصِحَ البَرّ . . . وتعْتاصُ وتَزْوَرّ
وتنْقادُ لمَنْ غَرّ . . . ومنْ مانَ ومنْ نَمّ
وتسعى في هَوى النّفسْ . . . وتحْتالُ على الفَلْسْ
وتنسَى ظُلمةَ الرّمسْ . . . ولا تَذكُرُ ما ثَمّ
ولوْ لاحظَكَ الحظّ . . . لما طاحَ بكَ اللّحْظْ
ولا كُنتَ إذا الوَعظْ . . . جَلا الأحزانَ تغْتَمّ
ستُذْري الدّمَ لا الدّمْعْ . . . إذا عايَنْتَ لا جمْعْ
يَقي في عَرصَةِ الجمعْ . . . ولا خالَ ولا عمّ
كأني بكَ تنحطّ . . . إلى اللحْدِ وتنْغطّ
وقد أسلمَك الرّهطْ . . . إلى أضيَقَ منْ سمّ
هُناك الجسمُ ممدودْ . . . ليستأكِلَهُ الدّودْ
إلى أن ينخَرَ العودْ . . . ويُمسي العظمُ قد رمّ ومنْ بعْدُ فلا بُدّ . . . منَ العرْضِ إذا اعتُدّ
صِراطٌ جَسْرُهُ مُدّ . . . على النارِ لمَنْ أمّ
فكمْ من مُرشدٍ ضلّ . . . ومنْ ذي عِزةٍ ذَلّ
وكم من عالِمٍ زلّ . . . وقال الخطْبُ قد طمّ
فبادِرْ أيّها الغُمْرْ . . . لِما يحْلو بهِ المُرّ
فقد كادَ يهي العُمرْ . . . وما أقلعْتَ عن ذمّ
ولا ترْكَنْ إلى الدهرْ . . . وإنْ لانَ وإن سرّ
فتُلْفى كمنْ اغتَرّ . . . بأفعى تنفُثُ السمّ
وخفّضْ منْ تراقيكْ . . . فإنّ الموتَ لاقِيكْ
وسارٍ في تراقيكْ . . . وما ينكُلُ إنْ همّ
وجانِبْ صعَرَ الخدّ . . . إذا ساعدَكَ الجدّ
وزُمّ اللفْظَ إنْ ندّ . . . فَما أسعَدَ مَنْ زمّ
ونفِّسْ عن أخي البثّ . . . وصدّقْهُ إذا نثّ
ورُمّ العمَلَ الرثّ . . . فقد أفلحَ مَنْ رم
ّ
ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ . . . بما عمّ وما خصّ
ولا تأسَ على النّقصْ . . . ولا تحرِصْ على اللَّمّ
وعادِ الخُلُقَ الرّذْلْ . . . وعوّدْ كفّكَ البذْلْ
ولا تستمِعِ العذلْ . . . ونزّهْها عنِ الضمّ
وزوّدْ نفسَكَ الخيرْ . . . ودعْ ما يُعقِبُ الضّيرْ
وهيّئ مركبَ السّيرْ . . . وخَفْ منْ لُجّةِ اليمّ
بِذا أُوصيتُ يا صاحْ . . . وقد بُحتُ كمَن باحْ
فطوبى لفتًى راحْ . . . بآدابيَ يأتَمّ
ثمّ حسرَ رُدنَهُ عن ساعِدٍ شديدِ الأسْرِ . قد شدّ علَيهِ جبائِرَ المكْرِ لا الكسْرِ . متعرّضاً للاستِماحةِ . في مِعرَضِ الوقاحَةِ . فاختلَبَ بهِ أولئِكَ المَلا . حتى أتْرَعَ كُمّهُ ومَلا . ثمّ انحدَرَ من الرّبوةِ . جذِلاً بالحَبوةِ . قال الراوي : فجاذَبْتُه منْ وَرائِهِ . حاشيَةَ رِدائِهِ . فالتَفَتَ إليّ مُستسلِماً . وواجهَني مُسلِّماً . فإذا هوَ شيخُنا أبو زيدٍ بعينِه . ومَينِهِ . فقلتُ له :
إلى كمْ يا أبا زيدْ . . . أفانينُكَ في الكيدْ
ليَنحاشَ لكَ الصيدْ . . . ولا تعْبا بمَنْ ذمّ
فأجابَ من غيرِ استِحْياء . ولا ارْتِياء . وقال :
تبصّرْ ودعِ اللوْمْ . . . وقُلْ لي هل تَرى اليومْ
فتًى لا يقمُرُ القومْ . . . متى ما دَستُهُ تمّ
فقلتُ لهُ : بُعداً لك يا شيخَ النّارِ . وزامِلَةَ العارِ فَما مَثلُكَ في طُلاوَةِ علانِيَتِك . وخُبثِ نيّتِك . إلا مثَلُ رَوْثٍ مفضَّضٍ . أو كَنيفٍ مبيَّضٍ . ثمّ تفرّقْنا فانطلَقْتُ ذاتَ اليَمين وانطلقَ ذات الشِّمالِ . وناوَحْتُ مهَبّ الجَنوبِ وناوحَ مهبّ الشَّمالِ .










مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید