المنشورات

المقامة المكّيّة

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : نهضْتُ من مدينةِ السّلامِ . لحِجّةِ الإسلامِ . فلمّا قضيْتُ بعَونِ اللهِ التّفَثَ . واستبَحْتُ الطّيبَ والرَّفَثَ . صادَفَ موسِمُ الخيْفِ . معْمَعانَ الصّيفِ . فاستَظْهَرْتُ للضّرورةِ . بِما يَقي حرَّ الظّهيرةِ . فبَينَما أنا تحتَ طِرافٍ . مع رُفقَةٍ ظِرافٍ . وقدْ حَمِيَ وَطيسُ الحصْباء . وأعْشى الهَجيرُ عينَ الحِرْباء . إذ هجَمَ عليْنا شيخٌ مُتَسَعْسِعٌ . يتْلوهُ فتًى متَرَعرِعٌ . فسلّمَ الشيخُ تسْليمَ أديبٍ أريبٍ . وحاوَرَ مُحاوَرَةَ قَريبٍ لا غَريبٍ . فأُعْجِبْنا بما نثَرَ منْ سِمْطِهِ . وعِجبْنا منِ انبِساطِه قبلَ بسْطِهِ . وقُلْنا لهُ : ما أنتَ . وكيفَ ولَجْتَ وما استأذَنْتَ ؟ فقال : أما أنا فعَافٍ . وطالِبُ إسْعافٍ . وسِرُّ ضُرّي غيرُ خافٍ . والنّظَرُ إليّ شفيعٌ لي كافٍ . وأمّا الانْسِيابُ . الذي علِقَ بهِ الارتِيابُ . فَما هوَ بعُجابٍ . إذ ما علَى الكُرَماء منْ حِجابٍ . فسألْناهُ : أنّى اهْتَدَى إليْنا . وبِمَ استَدَلّ علَيْنا ؟ فقال : إنّ للكرَمِ نشْراً تَنُمّ بهِ نفَحاتُهُ . وتُرْشِدُ إلى روضِهِ فوْحاتُهُ . فاستَدْلَلْتُ بتأرّجِ عَرْفِكُمْ . على تبلّجِ عُرفِكُم وبشّرَني تضوُّعُ رندِكُمْ . بحُسْنِ المُنقَلَبِ منْ عِندِكُم فاستخْبَرْناهُ حينَئِذٍ عنْ لُبانَتِهِ . لنتَكفّلَ بإعانتِهِ . فقال : إنّ لي مأرَباً . ولفَتايَ مَطلَباً . فقُلْنا لهُ : كِلا المَرامَينِ سيُقْضى . وكِلاكُما سوفَ يرْضى . ولكِنِ الكُبرَ الكُبْرَ . فقال : أجَلْ ومنْ دَحا السّبْعَ الغُبْرَ . ثمّ وثبَ للمَقالِ . كالمُنشَطِ منَ العِقالِ . وأنشَدَ : 
إني امرُؤٌ أُبدِعَ بي . . . بعدَ الوَجى والتّعَبِ
وشُقّتي شاسِعةٌ . . . يقْصُرُ عنها خَبَبي
وما معي خرْدَلَةٌ . . . مطبوعةٌ منْ ذهَبِ فحيلَتي مُنسَدّةٌ . . . وحَيرَتي تلعَبُ بي
إنِ ارتَحَلْتُ راجِلاً . . . خِفْتُ دَواعي العطَبِ
وإنْ تخلّفْتُ عنِ الرُفْ . . . قَةِ ضاقَ مذْهَبي
فزَفْرَتي في صُعُدٍ . . . وعَبْرتي في صبَبِ
وأنتُمُ مُنتجَعُ الرّا . . . جي ومرْمَى الطّلَبِ
لُهاكُمُ منهَلّةٌ . . . ولا انْهِلالَ السُحُبِ
وجارُكُمْ في حرَمٍ . . . ووَفْرُكُمْ في حرَبِ
ما لاذَ مُرْتاعٌ بكُمْ . . . فخافَ نابَ النُوَبِ
ولا استَدَرّ آمِلٌ . . . حِباءكُمْ فما حُبي
فانعَطِفوا في قِصّتي . . . وأحسِنوا مُنقلَبي
فلوْ بلوْتُمْ عيشَتي . . . في مطْعمي ومَشرَبي
لساءكُمْ ضُرّي الذي . . . أسلَمَني للكُرَبِ
ولوْ خبَرْتُمْ حسَبي . . . ونسَبي ومذْهَبي
وما حوَتْ معرِفَتي . . . منَ العُلومِ الُّخَبِ
لما اعتَرَتْكُمْ شُبهَةٌ . . . في أنّ دائي أدَبي
فلَيْتَ أنّي لمْ أكُنْ . . . أُرضِعْتُ ثَدْيَ الأدَبِ
فقد دَهاني شُؤمُه . . . وعَقّني فيهِ أبي
فقُلْنا له : أمّا أنتَ فقدْ صرّحَتْ أبياتُكَ بفاقَتِك . وعطَبِ ناقَتِكَ . وسنُمْطيكَ ما يوصّلُكَ إلى بلدِكَ . فما مأرَبَةُ ولَدِكَ ؟ فقال له : قُمْ يا بني كما قام أبوكَ . وفُهْ بما في نفسِك لا فُضّ فوكَ . فنهضَ نُهوضَ البطَلِ للبِرازِ . وأصْلَتَ لِساناً كالعضْبِ الجُرازِ . وأنشأ يقول :
يا سادَةً في المَعالي . . . لهُمْ مبانٍ مَشيدَهْ
ومَنْ إذا نابَ خطْبٌ . . . قاموا بدَفْعِ المكيدَهْ
ومن يهونُ عليهِمْ . . . بذْلُ الكُنوزِ العَتيدَهْ
أريدُ منكُمْ شِواءً . . . وجرْدَقاً وعصيدَهْ
فإنْ غَلا فَرُقاقٌ . . . بهِ تُوارَى الشّهيدَهْ
أو لمْ يكُنْ ذا ولا ذَا . . . فشُبْعَةٌ منْ ثَريدَهْ
فإنْ تعذّرْنَ طُرّاً . . . فعجْوَةٌ ونَهيدَهْ
فأحْضِروا ما تسنّى . . . ولوْ شَظًى منْ قَديدَهْ
وروِّجوهُ فنَفْسي . . . لِما يروجُ مُريدَهْ
والزّادُ لا بُدّ منْهُ . . . لرِحْلَةٍ لي بَعيدَهْ
وأنتُمُ خيْرُ رهْطٍ . . . تُدعَوْنَ عند الشّديدهْ
أيدِيكُمُ كلَّ يومٍ . . . لَها أيادٍ جَديدَهْ
وراحُكُمْ واصِلاتٌ . . . شمْلَ الصِّلاتِ المُفيدَهْ
وبُغْيَتي في مَطاوي . . . ما تَرفِدونَ زهيدَهْ
وفيّ أجْرٌ وعُقْبَى . . . تنْفيسِ كَرْبي حَميدَهْ
ولي نتائِجُ فِكرٍ . . . يفضَحْنَ كُلّ قَصيدَهْ
قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ : فلمّا رأيْنا الشّبْلَ يُشبِهُ الأسَدَ . أرحَلْنا الوالِدَ وزوّدْنا الولَدَ . فقابَلا الصُّنْعَ بشُكْرٍ نشَرَ أرديَتَهُ . وأدّيا بِه ديَتَهُ . ولمّا عزَما على الانْطِلاقِ . وعَقَدا للرّحلَةِ حُبُكَ النّطاقِ . قُلتُ للشّيخِ : هلْ ضاهَتْ عِدَتُنا عِدَةَ عُرْقوبٍ . أو هلْ بقيَتْ حاجةٌ في نفْسِ يعْقوبَ ؟ فقال : حاشَ للهِ وكَلاّ . بل جَلّ مَعروفُكُمْ وجَلّى . فقُلتُ لهُ : فَدِنّا كما دِنّاكَ . وأفِدْنا كما أفَدْناكَ . أينَ الدّوَيْرَةُ . فقدْ ملَكَتْنا فيكَ الحَيرَةُ ؟ فتنفّسَ تنفُّسَ منِ ادّكَرَ أوطانَهُ . وأنشدَ والشّهيقُ يلَعثِمُ لسانَه :
سَروجُ داري ولكِنْ . . . كيفَ السّبيلُ إلَيْها
وقدْ أناخَ الأعادي . . . بها وأخْنَوْا علَيْها
فوالّتي سِرْتُ أبْغي . . . حَطّ الذُنوبِ لدَيْها
ما راقَ طرْفيَ شيءٌ . . . مُذْ غِبتُ عنْ طرَفَيْها
ثمّ اغرَوْرَقَتْ عيناهُ بالدّموعِ . وآذَنَتْ مَدامِعُهُ بالهُموعِ . فكَرِهَ أن يستَوكِفَها . ولم يملِكْ أن يكَفْكِفَها . فقطَعَ إنْشادَهُ المُستَحْلى . وأوجَزَ في الوَداعِ وولّى .










مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید