المنشورات

المقامة النّصيبيّة

روى الحارثُ بنُ همّام قال : أمْحَلَ العِراقُ ذاتَ العُوَيْمِ .
لإخْلافِ أنواء الغَيْمِ . وتحدّثَ الرُكْبانُ بريفِ نَصيبِينَ . وبُلَهْنِيَةِ أهلِها المُخصِبينَ . فاقتَعَدْتُ مَهْرِيّاً . واعْتقلْتُ سمْهَرياً . وسِرْتُ تلفِظُني أرضٌ إلى أرضٍ . ويجذِبُني رفْعٌ منْ خفْضٍ . حتى بلغْتُها نِقْضاً على نِقضٍ . فلمّا أنخْتُ بمغْناها الخصيبِ . وضربْتُ في مرْعاها بنَصيبٍ . نوَيْتُ أن أُلْقيَ بها جِراني . وأتّخذَ أهلَها جيراني . إلى أنْ تحْيا السّنَةُ الجَمادُ . وتتعهّدُ أرضَ قوْمي العِهادُ . فواللهِ ما تمَضْمَضَتْ مُقلَتي بنوْمِها . ولا تمخّضَتْ ليْلَتي عن يومِها . دونَ أن ألفَيْتُ أبا زيدٍ السَّروجيَّ يجولُ في أرجاء نَصيبينَ . ويخبِطُ بها خبْطَ المُصابينَ والمُصيبينَ . وهوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ . ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ . فوجدْتُ بها جِهاديَ قد حازَ مَغنَماً . وقِدْحيَ الفَذّ قد صار توْأماً . ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث . وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ . إلى أنْ عراهُ مرضٌ امتدّ مَداهُ . وعرَقَتْهُ مُداهُ . حتى كادَ يسلُبُه ثوبَ المَحْيا .
ويسلّمُهُ إلى أبي يَحْيى . فوجدْتُ لفَوْتِ لُقياهُ . وانقِطاعِ سُقْياهُ . ما يجدُهُ المُبعَدُ عن مرامِهِ . والمُرضَعُ عندَ فِطامِهِ . ثمّ أرْجِفَ بأنّ رهْنَهُ قد غلِقَ . ومِخْلَبَ الحِمامِ بهِ قد علِقَ . فقَلِقَ صحْبُهُ لإرْجافِ المُرْجِفينَ . وانثالوا إلى عَقوَتِهِ مُوجِفينَ :
حَيارى يميدُ بهمْ شَجْوُهُمْ . . . كأنّهمُ ارتَضعوا الخندَريسا
أسالوا الغُروبَ وعطّوا الجُيوبَ . . . وصكّوا الخدودَ وشجّوا الرّؤوسا
يودونَ لوْ سالمَتْهُ المَنونُ . . . وغالَتْ نفائِسَهُمْ والنّفوسا قال الرّاوي : وكنتُ في مَنِ التفّ بأصْحابِه . وأغذّ إلى بابِه . فلمّا انتهيْنا إلى فِنائِه . وتصدّينا لاستِنْشاء أنْبائِهِ . برزَ إليْنا فتاهُ . مُفترّةً شفتَاهُ . فاستَطْلَعناهُ طِلْعَ الشيخِ في شَكاتِهِ . وكُنْهَ قُوى حرَكاتِهِ . فقال : قدْ كان في قبْضَةِ المرْضَةِ . وعرْكَةِ الوعْكَةِ . إلى أنْ شفّهُ الدّنَفُ . واستشفّهُ التّلَفُ . ثمّ منّ اللهُ تَعالى بتقويةِ ذمائِهِ . فأفاقَ منْ إغمائِهِ . فارْجِعوا أدراجَكُمْ . وانْضوا انزِعاجَكُمْ . فكأنْ قد غَدا وراحَ . وساقاكُمُ الرّاحَ . فأعْظَمْنا بُشْراهُ . واقترَحْنا أنْ نَراهُ . فدخَلَ مؤذِناً بِنا . ثمّ خرَج آذِناً لنا . فلَقينا منْهُ لَقًى . ولِساناً طلْقاً . وجلسْنا مُحدِقين بسَريرِهِ . محدّقينَ إلى أساريرِه . فقلّبَ طرْفَهُ في الجَماعةِ . ثمّ قال : اجْتَلوها بنتَ السّاعةِ . وأنشَد :
عافانيَ اللهُ وشُكْراً لهُ . . . منْ عِلّة كادتْ تُعَفّيني
ومنّ بالبُرْء على أنّهُ . . . لا بُدّ منْ حتْفٍ سيَبْريني
ما يتَناساني ولكنّهُ . . . إلى تقضّي الأُكْلِ يُنْسيني
إنْ حُمّ لمْ يُغْنِ حَميمٌ ولا . . . حمَى كُلَيْبٍ منْهُ يحْميني
وم أُبالي أدَنا يومُهُ . . . أم أُخّرَ الحَينُ إلى حينِ
فأيُّ فخْرٍ في حَياةٍ أرى . . . فيها البَلايا ثمّ تُبْليني
قال : فدعَوْنا لهُ بامتِدادِ الأجلِ . وارتِدادِ الوجَلِ . ثمّ تداعَيْنا إلى القِيامِ . لاتّقاءِ الإبْرامِ . فقالَ : كلاّ بلِ البَثوا بَياضَ يومِكُمْ عِندي . لتَشْفوا بالمَفاكَهَةِ وجْدي . فإنّ مُناجاتَكُمْ قوتُ نفْسي . ومَغْناطيسُ أُنسي . فتحرّيْنا مرْضاتَهُ . وتحامَيْنا مُعاصاتَهُ . وأقبَلْنا على الحَديثِ نمْخُضُ زُبْدَهُ . ونُلْغي زبَدَه . إلى أنْ حانَ وقتُ المَقيلِ . وكلّتِ الألسُنُ منَ القالِ والقيلِ . وكان يوْماً حاميَ الوَديقَةِ . يانِعَ الحَديقَةِ . فقال : إنّ النّعاسَ قدْ أمالَ الأعْناقَ . وراودَ الآماقَ . وهو خصْمٌ ألَدُّ . وخِطْبٌ لا يُرَدُّ . فصِلوا حبْلَهُ بالقَيْلولَةِ . واقْتَدوا فيهِ بالآثارِ المنقولةِ . قال الرّاوي : فاتّبعْنا ما قالَ . وقِلْنا وقالَ . فضربَ اللهُ على الآذانِ . وأفرَغَ السِّنَةَ في الأجْفانِ . حى خرَجْنا منْ حُكْمِ الوجودِ . وصُرِفْنا بالهُجودِ . عنِ السّجودِ . فما استيْقَظْنا إلا والحرُّ قدْ باخَ . واليومُ قد شاخَ . فتكرّعْنا لصَلاةِ العَجْماوَينِ . وأدّيْنا ما حَلّ منَ الدّينِ . ثمّ تحثْحَثْنا للارْتِحالِ . إلى مُلْقى الرِّحالِ . فالتَفَتَ أبو زيدٍ إلى شِبلِهِ . وكان على شاكِلَتِه وشكْلِهِ . وقال : إني لإخالُ أبا عَمْرَةَ . قد أضْرَمَ في أحشائِهِم الجَمرَةَ . فاسْتَدْعِ أبا جامِعٍ . فإنّهُ بُشرى كُلّ جائِعٍ . وأردِفْهُ بأبي نُعَيمٍ . الصّابِرِ على كلّ ضيْمٍ . ثمّ عزّزْ بأبي حَبيبٍ . المُحبَّبِ إلى كلّ لَبيبٍ . المقَلَّبِ بينَ إحْراقٍ وتعْذيبٍ . وأهِّبْ بأبي ثَقيفٍ .
فحبّذا هوَ منْ أليفٍ . وهلْمُمْ بأبي عوْنٍ . فما مثلُهُ منْ عوْنٍ . ولوِ استحْضَرْتَ أبا جميلٍ . لجَمّلَ أيّ تجْميلٍ . وحَيَّ هلَ بأمّ القِرَى . المذَكِّرةِ بكِسْرى . ولا تتناسَ أمّ جابِرٍ . فكمْ لها منْ ذاكِرٍ . ونادِ أمّ الفرَجِ . ثمّ افتِكْ بها ولا حرَجَ . واختِمْ بأبي رَزينٍ . فهُو مسْلاةُ كلّ حزينٍ . وإنْ تقْرُنْ بهِ أبا العَلاء . تمْحُ اسمَكَ من البُخَلاء . وإيّاكَ واستِدْناءَ المُرْجفَينِ . قبلَ استِقلالِ حُمولِ البَينِ . وإذا نزَعَ القوْمُ عنِ المِراسِ . وصافَحوا أبا إياسٍ . فأطِفْ علَيْهِمْ أبا السَّرْوِ . فإنّهُ عُنْوانُ السّرْوِ . قال : ففَقِهَ ابنُهُ لَطائِفَ رُموزِهِ . بلَطافَةِ تمْييزِهِ . فطافَ عليْنا بالطّيّباتِ والطِّيبِ . إلى أنْ آذَنَتْ الشّمسُ بالمَغيبِ . فلمّا أجْمَعْنا على التّوديعِ . قُلْنا لهُ : ألمْ ترَ إلى هذا اليومِ البديعِ ؟ كيفَ بَدا صُبحُهُ قمْطَريراً . ومُسْيُهُ مُستَنيراً ؟ فسجَدَ حتى أطالَ . ثمّ رفَعَ رأسَهُ وقالَ :
لا تيْأسَنْ عندَ النُّوَبْ . . . منْ فرْجَةٍ تجلو الكُرَبْ
فلكَمْ سَمومٍ هبّ ث . . . مّ جرَى نسيمً وانقَلَبْ
وسَحابِ مكْروهٍ تن . . . شّا فاضْمَحَلّ وما سكَبْ ودُخانِ خطْبٍ خِيفَ منْ . . . هُ فما استَبانَ لهُ لهَبْ
ولَطالَما طلَعَ الأسى . . . وعلى تَفيئَتِه غرَبْ
فاصْبِرْ إذا ما نابَ روْ . . . عٌ فالزّمانُ أبو العجَبْ
وترَجّ منْ رَوْحِ الإل . . . هِ لَطائِفاً لا تُحْتَسَبْ
قال : فاستَمْلَيْنا منْهُ أبياتَهُ الغُرّ . وواليْنا للهِ تَعالى الشُكْرَ . وودّعْناهُ مسرورينَ ببُرْئِهِ . مَغْمورينَ ببِرّهِ .












مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید