المنشورات

المقامة الفارقيّة

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ : يمّمْتُ ميّافَارِقينَ . معَ رُفقةٍ مُوافِقينَ . لا يُمارونَ في المُناجاةِ . ولا يدْرونَ ما طعْمُ المُداجاةِ . فكُنتُ بهِمْ كمَنْ لمْ يرِمْ عنْ وَجارِهِ . ولا ظعَنَ عنْ أليفِهِ وجارِهِ . فلمّا أنخْنا بها مطايا التّسْيارِ . وانتقلْنا عنِ الأكوارِ . إلى الأوْكارِ . تواصَيْنا بتَذْكارِ الصُحْبَةِ . وتناهَيْنا عنِ التّقاطُعِ في الغُربَةِ . واتّخذْنا نادِياً نعتَمِرُهُ طرَفَي النهارِ . ونتَهادَى فيهِ طُرَفَ الأخْبارِ . فبَينَما نحنُ بهِ في بعضِ الأيامِ . وقد انتظَمْنا في سِلكِ الالتِئامِ . وقفَ علَيْنا ذو مِقْوَلٍ جريّ . وجرْسٍ جهْوَريّ . فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ . قنّاصٍ للأسَدِ . والنّقَدِ . ثمّ قال :
عِنديَ يا قومُ حديثٌ عَجيبْ . . . فيهِ اعْتِبارٌ للّبيبِ الأريبْ
رأيتُ في رَيْعانِ عُمْري أخا . . . بأسٍ لهُ حدُّ الحُسامِ القَضيبْ
يُقْدِمُ في المَعْرَكِ إقْدامَ منْ . . . يوقِنُ بالفَتْكِ ولا يسْتَريبْ
فيُفْرِجُ الضّيقَ بكَرّاتِه . . . حتى يُرى ما كان ضَنْكاً رَحيبْ
ما بارَزَ الأقْرانَ إلا انْثَنى . . . عنْ موقِفِ الطّعْنِ برُمحٍ خضيبْ
ولا سَما يفتَحُ مُستَصْعِباً . . . مُستَغْلِقَ البابِ مَنيعاً مَهيبْ
إلا ونودِي حينَ يسْمو لهُ . . . نصْرٌ منَ اللهِ وفتْحٌ قَريبْ
هذا وكمْ من ليلَةٍ باتَها . . . يَميسُ في بُرْدِ الشّبابِ القَشيبْ
يرتَشِفُ الغِيدَ ويرشُفْنَهُ . . . وهْوَ لدى الكُلّ المُفَدّى الحبيبْ
فلم يزَلْ يبتَزّهُ دهرُهُ . . . ما فيهِ منْ بطْشٍ وعودٍ صَليبْ
حتى أصارَتْهُ اللّيالي لَقًى . . . يَعافُهُ منْ كان منهُ قَريبْ
قد أعجزَ الرّاقيَ تحْليلُ ما . . . بهِ منَ الدّاء وأعْيا الطّبيبْ
وصارَمَ البيضَ وصارَمْنَهُ . . . من بعدِ ما كانَ المُجابَ المُجيبْ
وآضَ كالمنْكوسِ في خَلْقِهِ . . . ومَنْ يَعِشْ يَلقَ دواهي المَشيبْ
وها هُوَ اليومَ مُسَجّى فمَنْ . . . يرْغَبُ في تكْفينِ ميْتٍ غَريبْ ثمّ إنهُ أعلنَ بالنّحيبِ . وبكى بُكاءَ المُحبّ على الحَبيبِ . ولما رقأتْ دمعَتُهُ . وانْفثأتْ لوْعَتُهُ . قال : يا نُجعَةَ الرّوادِ .
وقُدوَةَ الأجْوادِ . واللهِ ما نطَقْتُ ببُهْتانٍ . ولا أخبَرْتُكُمْ إلا عنْ عِيانٍ . ولوْ كان في عَصايَ سيْرٌ . ولغَيمي مُطَيْرٌ . لاستأثرْتُ بما دعَوْتُكُمْ إليْهِ . ولما وقْفتُ موقِفَ الدّالّ علَيْهِ . ولكنْ كيفَ الطّيرانُ بلا جَناحٍ . وهلْ على منْ لا يجِدُ منْ جُناحٍ ؟ قال الرّاوي : فطفِقَ القومُ يأتَمِرونَ . في ما يأمُرونَ . ويتخافَتونَ . في ما يأتُونَ . فتوهّمَ أنهُم يتمالَؤون على صَرْفِهِ بحِرْمانٍ . أو مُطالَبَتِه ببُرْهانٍ . ففرطَ منهُ أنْ قال : يا يلامِعَ القاعِ . ويَرامِعَ البِقاعِ . ما هذا الارْتِياء . الذي يأباهُ الحَياء ؟ حتى كأنّكُمْ كُلّفْتُمْ مشَقّةً . لا شُقّةً . أوِ استُوهِبتُمْ بلدَةً . لا بُرْدَةً . أو هُزِزْتُمْ لكِسوَةِ البيْتِ . لا لتَكْفينِ الميْتِ ؟ أُفٍّ لمَنْ لا تَنْدى صَفاتُهُ . ولا ترْشَحُ حَصاتُهُ فلمّا بصُرَتِ الجَماعَةُ بذِلاقَتِهِ . ومرارَةِ مَذاقَتِهِ . رفأهُ كُلٌ منْهُمْ بنَيْلِهِ . واحتَمَلَ طلَّهُ خوْفَ سيْلِهِ . قال الحارثُ بنُ همّام : وكان هذا السّائلُ واقِفاً خلْفي . ومُحتَجِباً بظهْري عنْ طرْفي .
فلمّا أرْضاهُ القومُ بسَيْبِهِمْ . وحقّ عليّ التّأسّي بهِمْ . خلَجْتُ خاتَمي من خِنصِري . ولفتّ إليهِ بصَري . فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيُّ بِلا فِريَةٍ . ولا مِرْيَةٍ . فأيقَنْتُ أنّها أُكذوبَةٌ تكذَّبَها . وأُحبولَةٌ نصبَها . إلا أنّني طويْتُهُ على غَرّهِ . وصُنْتُ شَغاهُ عنْ فرّهِ . فحَصَبْتُهُ بالخاتَمِ . وقلتُ : أرصِدْهُ لنفَقَةِ المأتَمِ . فقال : واهاً لكَ . فما أضْرَمَ شُعْلَتَك . وأكْرَمَ فَعْلتَكَ ثمّ انطلَقَ يسْعى قُدْماً . ويهرْوِلُ هرْولَتهُ قِدْماً . فنزَعْتُ إلى عِرْفانِ ميّتِه . وامتِحانِ دعْوى حميّتِهِ . فقرَعْتُ ظُنْبوبي . وألْهبْتُ أُلْهوبي . حتى أدركْتُه على غَلوَةٍ . واجتَلَيْتُهُ في خَلوَةٍ . فأخَذْتُ بجُمْعِ أرْدانِه . وعُقْتُهُ عن سُنَنِ ميْدانِهِ . وقلتُ لهُ : واللهِ ما لك منّي ملْجأٌ ولا منْجًى . أو تُريني ميّتَكَ المُسَجّى فكشفَ عنْ سراويلِه . وأشار إلى غُرْمولِهِ . فقلتُ لهُ : قاتلَكَ اللهُ فما ألْعبَكَ بالنُهى . وأحيَلَكَ على اللُّهَى ثمّ عُدْتُ إلى أصحابي عوْدَ الرّائِدِ الذي لا يكذِبُ أهلَهُ . ولا يُبَرقِشُ قولَهُ . فأخبَرْتُهُمْ بالذي رأيتُ . وما ورّيتُ ولا رأيتُ . فقَهْقهوا منْ كَيْتَ وكَيْتَ . ولعَنوا ذلِكَ المَيْتَ .











مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید