المنشورات

المقامة الفُراتيّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : أوَيْتُ في بعضِ الفتَراتِ . إلى سقْيِ الفُراتِ . فلَقيتُ بها كُتّاباً أبْرَعَ منْ بَني الفُراتِ . وأعْذَبَ أخْلاقاً منَ الماء الفُراتِ . فأطَفْتُ بهِمْ لتهَذُّبِهِمْ . ولا لذَهَبِهِمْ . وكاثَرْتُهُمْ لأدَبِهِم . لا لمآدِبِهمْ . فجالَسْتُ منهُمْ أضْرابَ قَعْقاعِ بنِ شَوْرٍ . ووصلتْ بهِمْ إلى الكَوْرِ . بعدَ الحَوْرِ . حتى إنّهُمْ أشرَكوني في المرْتَعِ والمرْبَعِ . وأحَلّوني محَلّ الأنْمُلَةِ منَ الإصْبَعِ . واتّخذوني ابنَ أُنسِهِمْ عندَ الوِلايَةِ والعَزْلِ . وخازِنَ سِرّهِمْ في الجِدّ والهزْلِ . فاتّفَقَ أنْ نُدِبوا في بعْضِ الأوْقاتِ . لاستِقْراء مَزارِعِ الرُزْداقاتِ . فاخْتاروا منَ الجَواري المُنْشآتِ . جاريةً حالِكَةَ الشِّياتِ . تَحْسَبُها جامِدةً وهي تمُرّ مرّ السّحابِ . وتنْسابُ في الحَبابِ كالحُبابِ . ثمّ دعَوْني إلى المُرافَقَةِ . فلبّيتُ بلِسانِ المُوافَقَةِ . فلمّا تورّكْنا على المَطيّةِ الدّهْماء . وتبَطّنّا الوَلِيّةَ الماشيةَ على الماء . ألفَيْنا بها شيخاً علَيْهِ سحْقُ سِرْبالٍ . وسِبٌّ بالٍ . فعافَتِ الجَماعَةُ مَحْضَرَهُ . وعنّفَتْ منْ أحضَرَهُ . وهمّتْ بإبْرازِهِ منَ السّفينةِ . لولا ما ثابَ إلَيْها منَ السّكينَةِ . فلمّا لمحَ منّا استِثْقالَ ظِلّهِ . واستِبْرادَ طَلّهِ . تعرّضَ للمُنافثَةِ .
فصُمّتَ . وحمْدَلَ بعدَ أنْ عطَسَ فما شُمّتَ . فأخْرَدَ ينظُرُ فيما آلَتْ حالُهُ إليْهِ . وينتظِرُ نُصرَةَ المَبْغيّ علَيْهِ . وجُلْنا نحْنُ في شُجونٍ . منْ جِدٍّ ومُجونٍ . إلى أنِ اعتَرَضَ ذِكْرُ الكِتابَتَينِ وفضْلِهِما . وتَبْيانِ أفضَلِهِما . فقالَ قائِلٌ : إنّ كتَبَةَ الإنْشاء أنْبَلُ الكُتّابِ . ومالَ مائِلٌ إلى تفْصيلِ الحُسّابِ . واحتدّ الحِجاجُ . وامتدّ اللَّجاجُ . حتى إذا لمْ يبْقَ للجِدالِ مَطرَحٌ . ولا للمِراء مسرَحٌ . قال الشيخُ : لقدْ أكثرْتُمْ يا قوْمُ اللّغَطَ . وأثَرْتُمُ الصّوابَ والغلَطَ . وإنّ جَليّةَ الحُكمِ عِندي . فارتَضوا بنقْدي . ولا تستَفْتوا أحداً بعْدِي . اعْلَموا أنّ صِناعَةَ الإنْشاء أرْفَعُ . وصِناعَةَ الحِسابِ أنفَعُ . وقلَمَ المُكاتَبَةِ خاطِبٌ . وقلَمَ المُحاسَبَةِ حاطِبٌ . وأساطيرَ البَلاغَةِ تُنسَخُ لتُدْرَسَ . ودساتيرَ الحُسْباناتِ تُنسَخُ وتُدرَسُ . والمُنشِئُ جُهَينَةُ الأخْبارِ . وحقيبةُ الأسْرارِ . ونَجيُّ العُظماء . وكَبيرُ النُّدَماء . وقلَمُهُ لِسانُ الدولَةِ .
وفارِسُ الجولَةِ . ولُقْمانُ الحِكمَةِ . وتَرْجُمانُ الهِمّةِ . وهوَ البَشيرُ والنّذيرُ . والشّفيعُ والسّفيرُ . بهِ تُستَخْلَصُ الصّياصي . وتُملَكُ النّواصي . ويُقتادُ العاصي . ويُستَدْنى القاصي . وصاحِبُهُ بريءٌ من التّبِعاتِ . آمِنٌ كيْدَ السُعاةِ . مقرَّظٌ بينَ الجماعاتِ . غيرُ معرَّضٍ لنَظْمِ الجِماعاتِ . فلمّا انتهى في الفصْلِ . إلى هذا الفصْلِ . لحَظَ منْ لمَحاتِ القوْمِ أنهُ ازْدَرَعَ حُبّاً وبُغْضاً . وأرْضى بعْضاً وأحفَظَ بعْضاً . فعقّبَ كلامَهُ بأنْ قال : إلا أنّ صِناعَة الحِسابِ موضوعةٌ على التّحقيقِ . وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ . وقلَمَ الحاسِبِ ضابِطٌ . وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ . وبينَ إتاوَةِ توظيفِ المُعامَلاتِ . وتِلاوَةِ طَواميرِ السّجِلاّتِ . بوْنٌ لا يُدرِكُهُ قِياسٌ . ولا يعْتَورُهُ التِباسٌ . إذِ الإتاوَةُ تمْلأ الأكْياسَ . والتّلاوَةُ تفَرِّغُ الرّاسَ . وخَراجُ الأوارِجِ يُغْني النّاظِرَ . واستِخْراجُ المَدارِجِ يُعَنّي الناظِرَ . ثمّ إنّ الحسَبَةَ حفَظَةُ الأموالِ . وحمَلَةُ الأثْقالِ . والنّقَلَةُ الأثْباتُ .
والسّفَرَةُ الثّقاتُ . وأعْلامُ الإنْصافِ . والانتِصافِ . والشّهودُ المَقانِعُ في الاختِلافِ . ومنهُمُ المُستَوْفي الذي هوَ يدُ السّلطانِ . وقُطْبُ الدّيوانِ . وقِسْطاسُ الأعملِ . والُهَيمِنُ على العُمّالِ . وإليْهِ المآبُ في السّلْمِ والهرْجِ . وعلَيْهِ المَدارُ في الدّخْلِ والخرَجِ . وبهِ مَناطُ الضّرّ والنّفْعِ . وفي يدِهِ رِباطُ الإعْطاء والمنْعِ . ولوْلا قلَمُ الحُسّابِ . لأوْدَتْ ثمرَةُ الاكتِسابِ . ولاتّصَلَ التّغابُنُ إلى يومِ الحِسابِ . ولَكانَ نِظامُ المُعامَلاتِ مَحْلولاً . وجُرْحُ الظُلاماتِ مطْلولاً . وجيدُ التّناصُفِ مغْلولاً . وسيْفُ التّظالُمِ مسْلولاً . على أنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ . ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ . والمُحاسِبُ مناقِشٌ . والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ . ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى . إلى أنْ يُلْقى ويُرْقى . وإعْناتٌ فيما يُنْشا . حتى يُغْشى . ويُرْشى . إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ . قال الحارِثُ بنُ همّامٍ : فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ . بما راقَ وراعَ . استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ . وأبَى الانتِسابَ . ولوْ وجَدَ مُنْساباً لانْسابَ . فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ . حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ . فقُلْتُ : والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ . والفُلْكَ السّيّارَ . إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ . وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ . فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي . وقال : أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي . فقلتُ لأصحابي : هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ . ولا يُبارَى عبقَريُّهُ . فخطَبوا منْهُ الوُدّ . وبذَلوا لهُ الوُجْدَ . فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ . ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ . وقال : أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي . لأجلِ سَحْقي . وكسفْتُمْ بالي . لإخْلاقِ سِرْبالي . فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ . ولا لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ . ثمّ أنشدَ : نّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ . ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ . والمُحاسِبُ مناقِشٌ . والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ . ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى . إلى أنْ يُلْقى ويُرْقى . وإعْناتٌ فيما يُنْشا . حتى يُغْشى . ويُرْشى . إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ . قال الحارِثُ بنُ همّامٍ : فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ . بما راقَ وراعَ . استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ . وأبَى الانتِسابَ . ولوْ وجَدَ مُنْساباً لانْسابَ . فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ . حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ . فقُلْتُ : والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ . والفُلْكَ السّيّارَ . إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ . وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ . فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي . وقال : أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي . فقلتُ لأصحابي : هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ . ولا يُبارَى عبقَريُّهُ . فخطَبوا منْهُ الوُدّ . وبذَلوا لهُ الوُجْدَ . فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ . ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ . وقال : أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي . لأجلِ سَحْقي . وكسفْتُمْ بالي . لإخْلاقِ سِرْبالي . فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ . ولا لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ . ثمّ أنشدَ :
إسمَعْ أُخَيّ وصيّةً منْ ناصِحٍ . . . ما شابَ محْضَ النُصْح منه بغِشّهِ
لا تَعجَلَنْ بقضيّةٍ مبْتوتَةٍ . . . في مدْحِ منْ لمْ تبلُهُ أو خدشِهِ
وقِفِ القضيّةَ فيهِ حتى تجْتَلي . . . وصْفَيْهِ في حالَيْ رِضاهُ وبطْشِهِ
ويَبينَ خُلّبُ برْقِهِ منْ صِدْقِهِ . . . للشّائِمينَ ووبْلُهُ منْ طَشّهِ
فهُناكَ إنْ ترَ ما يَشينُ فوارِهِ . . . كرَماً وإنْ ترَ ما يَزينُ فأفْشِهِ
ومنِ استَحَقّ الإرْتِقاءَ فرقّهِ . . . ومنِ استحطّ فحُطّهُ في حشّهِ
واعلَمْ بأنّ التّبرَ في عِرْقِ الثّرى . . . خافٍ إلى أنْ يُستَثارَ بنَبْشِهِ
وفَضيلةُ الدّينارِ يظهَرُ سِرُّها . . . منْ حَكّهِ لا مِنْ مَلاحَةِ نقْشِهِ
ومنَ الغَباوةِ أن تعظّمَ جاهِلاً . . . لصِقالِ ملبَسِهِ ورونَقِ رَقْشِهِ
أو أن تُهينَ مهذّباً في نفسِهِ . . . لدُروسِ بِزّتِهِ ورثّةِ فُرْشِهِ
ولَكَمْ أخي طِمْرَينِ هِيبَ لفضْله . . . ومفَوّفِ البُرْدَينِ عيبَ لفُحْشِهِ
وإذا الفتى لمْ يغْشَ عاراً لم تكنْ . . . أسْمالُهُ إلاّ مَراقي عرْشِهِ
ما إنْ يضُرُّ العَضْبُ كوْنُ قِرابِهِ . . . خلَقاً ولا البازِي حَقارَةُ عُشّهِ
ثمّ ما عتّمَ أنِ استوْقَفَ الملاّحَ . وصعِدَ منَ السّفينةِ وساحَ . فندِمَ كلٌ منّا على ما فرّطَ في ذاتِه . وأغْضى جفْنَه على قَذاتِهِ . وتعاهَدْنا على أنْ لا نحتَقِرَ شخْصاً لرَثاثَةِ بُرْدِهِ . وأنْ لا نزْدَريَ سيْفاً مخْبوءاً في غِمدِهِ .









مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید