المنشورات

المقامة الرّقْطاء

حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال : حلَلْتُ سوقَيِ الأهوازِ . لابِساً حُلّةَ الإعْوازِ . فلبِثْتُ فيها مُدّةً . أُكابِدُ شِدّةً . وأزَجّي أياماً مسوَدّةً . إلى أنْ رأيتُ تَماديَ المُقامِ . من عَوادِي الانتِقامِ . فرمَقْتُها بعَينِ القالي . وفارَقتُها مُفارقَةَ الطّلَلِ البالي . فظعَنْتُ عن وشَلِها . كَميشَ الإزارِ . راكِضاً إلى المياهِ الغِزارِ . حتى إذا سِرْتُ منها مرحلَتَينِ . وبَعُدْتُ سُرَى ليلَتَينِ . تراءتْ لي خيمَةٌ مَضروبَةٌ . ونارٌ مشبوبَةٌ . فقلتُ : آتِيهِما لعَلّي أنقَعُ صَدًى . أو أجِدُ على النّارِ هُدًى . فلمّا انتهَيتُ إلى ظِلّ الخَيمَةِ رأيتُ غِلمَةً رُوقَةً . وشارَةً مرْموقَةً . وشيْخاً علَيْهِ بزّةٌ سَنيّةٌ . ولدَيهِ فاكهةٌ جَنيّةٌ . فحيّيْتُهُ . ثمّ تحامَيتُهُ . فضحِكَ إليّ . وأحسنَ الرّدَّ عليّ . وقال : ألا تجلِسُ إلى مَنْ تَروقُ فاكِهَتُهُ . وتَشوقُ مُفاكَهتُهُ ؟ فجلَسْتُ لاغتِنامِ مُحاضرَتِهِ . لا لالْتِهامِ ما بحضْرَتِهِ . فحينَ سفَرَ عن آدابِهِ . وكشَرَ عن أنيابِهِ . عرَفْتُ أنهُ أبو زيدٍ بحُسنِ مُلَحِهِ . وقُبْحِ قلَحِهِ . فتَعارَفْنا حينَئذٍ . وحفّتْ بي فرْحَتانِ ساعتَئذٍ . ولمْ أدْرِ بأيّهِما أنا أضْفى فرَحاً . وأوْفى مرَحاً : أبإسْفارِهِ . منْ دُجُنّةِ أسْفارِهِ ؟ أم بخِصْبِ رِحالِهِ . بعدَ إمحالِهِ ؟ وتاقَتْ نفسي إلى أن أفُضّ ختْمَ سِرّهِ . وأبطُنَ داعِيَةَ يُسْرِهِ . فقلتُ له : منْ أينَ إيابُكَ . والى أينَ انسِيابُكَ . وبِمَ امتلأتْ عِيابُك ؟ فقال : أمّا المَقْدَمُ فمِنْ طوسَ . وأما المَقصِدُ فإلى السّوسِ . وأما الجَدَةُ التي أصَبْتُها فمِنْ رِسالَةٍ اقتَضَبْتُها . فسألتُهُ أن يَفرُشَني دِخلتَهُ . ويسْرُدَ عليّ رِسالتَهُ . فقال : دونَ مَرامِكَ حرْبُ البَسوسِ . أو تَصحبَني إلى السّوسِ . فصاحَبتُهُ إليْها قَهْراً . وعكفْتُ علَيْهِ بها شهْراً . وهوَ يَعُلّني كاساتِ التّعليلِ . ويُجِرّني أعِنّةَ التأميلِ . حتى إذا حرِجَ صدْري . وعِيلَ صبْري . قلتُ له : إنهُ لمْ يبْقَ لكَ عِلّةٌ . ولا لي في المُقامِ تَعِلّةٌ . وفي غدٍ أزْجُرُ غُرابَ البينِ . وأرْحَلُ عنكَ بخُفّيْ حُنَينٍ . فقال : حاشا للهِ أنْ أُخْلِفَكَ . أو أُخالِفَكَ . وما أرْجأتُ أنْ أحدّثَكَ . إلا لأُلَبّثَكَ . وإذا كُنتَ قدِ استربْتَ بعِدَتي . وأغْراكَ ظَنُّ السوء بمُباعَدَتي . فأصِخْ لقَصَصِ سيرَتي المُمتدّةِ . وأضِفْها إلى أخْبارِ الفرَجِ بعْدَ الشّدةِ . فقلتُ لهُ : هاتِ فما أطوَلَ طيَلَكَ . وأهْوَلَ حيَلَكَ فقال : اعْلَمْ أنّ الدهْرَ العَبوسَ . ألْقاني إلى طوسَ . وأنا يومَئِذٍ فَقيرٌ وَقيرٌ . لا فَتيلَ لي ولا نَقيرٌ . فألجأني صفَرُ اليَدَينِ . إلى التطوُّقِ بالدَّينِ . فادّنْتُ لسوء الاتّفاقِ . ممّنْ هوَ عَسِرُ الأخْلاقِ . وتوهّمْتُ تسَنّيَ النَّفاقِ . فتوسّعْتُ في الإنْفاقِ . فما أفَقْتُ حتى بهَظَني دَينٌ لزِمَني حقُّهُ . ولازَمَني مُستَحِقُّهُ . فحِرْتُ في أمري . وأطلَعْتُ غَريمي على عُسْري . فلمْ يُصَدّقْ إمْلاقي . ولا نزَعَ عنْ إرْهاقي . بلْ جَدّ في التّقاضي . ولَجّ في اقْتِيادي إلى القاضي . وكلّما خضَعْتُ له في الكلام . واستنْزَلتُ منهُ رِفقَ الكِرامِ . ورغّبْتُهُ في أنْ ينظُرَ لي بمُياسرَةٍ . أو يُنظِرَني إلى ميسرَةٍ . قال : لا تطْمَعْ في الإنْظارِ . واحتِجانِ النُّضارِ . فوَحقّكَ ما تَرى مسالِكَ الخَلاصِ . أو تُريَني سبائِكَ الخِلاصِ فلمّا رأيتُ احتِدادَ لَدَدِهِ . وأنْ لا مَناصَ لي منْ يدِهِ . شاغَبْتُهُ . ثمّ واثبْتُهُ . ليُرافِعَني إلى والي الجَرائِمِ . لا إلى الحاكِمِ في المظالمِ . لِما كان بلَغَني منْ إفْضالِ الوالي وفضْلِهِ . وتشدُّدِ القاضي وبُخْلِهِ . فلمّا حضَرْنا بابَ أميرِ طوسَ . آنَسْتُ أن لا بأسَ ولا بوسَ . فاستَدْعَيْتُ دَواةً وبَيْضاءَ . وأنشأتُ رِسالةً رقْطاءَ . وهيَ : أخلاقُ سيّدِنا تُحَبُّ . وبعَقْوَتِهِ يُلَبُّ . وقُربُهُ تُحَفٌ . ونأيُهُ تلَفٌ . وخُلّتُهُ نسَبٌ . وقَطيعَتُهُ نصَبٌ . وغَرْبُهُ ذَلِقٌ . وشُهْبُهُ تأتَلِقُ . وظَلْفُهُ زانَ . وقَويمُ نهجِهِ بانَ . وذهنُهُ قلّبَ وجرّبَ . ونعْتُهُ شرّقَ وغرّبَ :
سيّدٌ قُلَّبٌ سَبوقٌ مُبِرٌّ . . . فطِنٌ مُغرِبٌ عَزوفٌ عَيوفُ
مُخلِفٌ مُتلِفٌ أغَرُّ فَريدٌ . . . نابِهٌ فاضِلٌ ذكيٌّ أَنوفُ
مُفْلِقٌ إنْ أبانَ طَبٌّ إذا نا . . . بَ هِياجٌ وجلَّ خطْبٌ مَخوفُ
مَناظِمُ شرَفِهِ تأتَلِفُ . وشُؤبوبُ حِبائِهِ يكِفُ . ونائِلُ يدَيْهِ فاضَ . وشُحُّ قلبِهِ غاضَ . وخِلْفُ سَخائِهِ يُحتلَبُ . وذهَبُ عِيابِهِ يُحتَرَبُ . مَنْ لفّ لِفّهُ فلَجَ وغلَبَ . وتاجِرُ بابِهِ جلبَ وخلَبَ . كفَّ عنْ هضْمِ بَريٍّ . وبَرئَ من دنَسِ غَويٍّ . وقرَنَ لِيانَهُ بعِزّ . ونكّبَ عنْ مذْهَبِ كَزّ . ليسَ بوَثّابٍ عندَ نُهْزَةِ شَرّ . بل يعِفّ عِفّةَ بَرّ :
فلِذا يُحَبُّ ويُستَحَقُّ عَفافُهُ . . . شَغَفاً بهِ فلُبابُهُ خَلاّبُ
أخلاقُهُ غُرٌ ترِفُّ وَفُوقُهُ . . . فُوقٌ إذا ناضلْتَهُ غَلاّبُ
سُجُحٌ يهِشّ وذو تَلافٍ إنْ هَفا . . . خِلٌّ فليْسَ بحقّهِ يُرْتابُ
لا باخِلٌ بلْ باذِلٌ خِرْقٌ إذا . . . يُعْتَرُّ بَرْزٌ لا يَليهِ بابُ
إنْ عضّ أزْلٌ فَلّ غرْبَ عِضاضِهِ . . . بمَنابِهِ فانْحَتّ منْهُ نابُ
وجَديرٌ بمَنْ لَبّ وفطَنَ . وقَرُبَ وشطَنَ . أنْ أذْعَنَ لقَريعِ زمَنٍ . وجابِرِ زمَنٍ . مُذْ رضِعَ ثدْيَ لِبانِهِ . خُصّ بإفاضَةِ تهْتانِهِ . نعشَ وفرّجَ . وضافرَ فأبْهَجَ . ونافرَ فأزْعَجَ .
وفاءَ بحَقٍّ أبْلَجَ . أتْعَبَ مَنْ سيَلي . وقُرّظَ إذْ هُزّ وبُليَ . وتوّجَ صِفاتِهِ . بحُبّ عُفاتِهِ :
فلا خَلا ذا بهْجَةٍ . . . يمتَدُّ ظِلُّ خِصْبِهِ
فإنهُ بَرٌّ بمَنْ . . . آنسَ ضوْءَ شُهْبِهِ
زانَ مَزايا ظَرْفِهِ . . . بلُبْسِ خوفِ ربّهِ
فلْيَهْنِ سيّدَنَا فوزُهُ بمَفاخِرَ تأثّلَتْ وجَلّتْ . وفوْتُهُ بصنائِعَ تمّتْ ونمّتْ . ويُلائِمُ قُرْبَ حضرَتِهِ . غوْثُ رِقّهِ بحظٍّ منْ حُظوَتِهِ . فإنهُ تَليدُ ندْبٍ . وشَريدُ جدْبٍ . وجَريحُ نوَبٍ أثّرتْ . وناظِمُ قلائدَ تسيّرَتْ . إذا جاشَ لخُطبَةٍ فلا يوجَدُ قائلٌ . ثمّ قُسٌّ ثم باقلٌ . فإنْ حبّرَ قلتَ حِبَرٌ نُنِمَتْ . وخِلْتَ رِياضاً قد نمتْ . هذا ثمّ شِرْبُهُ برْضٌ . وقوتُهُ قرْضٌ . وفلَقُهُ غسَقٌ . وجِلْبابُهُ خلَقٌ . وقدْ قلِقَ لتوَغُّرِ غَريمٍ غاشِمٍ . يستَحثّهُ بحقٍّ لازِمٍ . فإنْ منّ سيدُنا بكفّهِ . بهِباتِ كفّهِ . توشّحَ بمجْدٍ فاقَ . وباءَ بأجْرِ فكّي منْ وَثاقٍ . لا خلَتْ سَجايا خُلْقِهِ . ترفِدُ شائِمَ برْقِهِ . بمَنّ ربٍّ أزَليٍّ . حيٍّ أبَديٍّ . قال : فلمّا استشَفّ الأميرُ لآليها . ولمحَ السّرَّ المودَعَ فيها . أوعَزَ في الحالِ بقضاء دَيْني . وفصَلَ بينَ خصْمي وبيْني . ثمّ استَخْلَصَني لمُكاثرَتِهِ . واخْتَصّني بأثَرَتِهِ . فلبِثْتُ بضْعَ سِنينَ أنعَمُ في ضيافَتِهِ . وأرتَعُ في ريفِ رافَتِهِ . حتى إذا غمَرَتْني مواهِبُهُ . وأطالَ ذيْلي ذهَبُهُ . تلطّفْتُ في الارتِحالِ . على ما تَرى منْ حُسْنِ الحالِ . قال : فقلْتُ لهُ شُكراً لمَنْ أتاحَ لكَ لُقْيانَ السّمْحِ الكَريمِ . وأنقذَكَ بهِ منْ ضغْطَةِ الغَريمِ فقال : الحمدُ للهِ على سعادَةِ الجَدّ . والخُلوصِ منَ الخصْمِ الألَدّ . ثمّ قال : أيُّما أحَبُّ إليْكَ أنْ أُحذيَكَ منَ العَطاء . أمْ أُتحِفَكَ بالرّسالَةِ الرّقْطاء ؟ فقلتُ : إمْلاءُ الرّسالَةِ أحَبُّ إليّ فقال : وهوَ وحقّكَ أفُّ عليّ . فإنّ نِحْلَةَ ما يلِجُ في الآذانِ . أهْوَنُ منْ نِحلَةِ ما يخرُجُ منَ الأرْدانِ . ثمّ كأنّهُ أنِفَ واستَحْيا . فجمَعَ لي بينَ الرّسالَةِ والحُذْيا . ففُزْتُ منهُ بسَهْمَينِ . وفصلْتُ عنهُ بغُنْمَينِ . وأُبْتُ إلى وطَني قَريرَ العينِ . بِما حُزْتُ منَ الرّسالةِ والعَينِ .














مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید