المنشورات

المقامة الوَبَريّة

حكى الحارِثُ بنُ همّامٍ قال : مِلتُ في رَيِّقِ زَماني الذي غبَرَ . إلى مُجاوَرَةِ أهْلِ الوبَرِ . لآخُذَ إخْذَ نُفوسِهِمِ الأبيّةِ . وألسِنَتِهِمِ العربيّةِ . فشمّرْتُ تشْميرَ منْ لا يألو جُهْداً . وجعلْتُ أضرِبُ في الأرضِ غَوْراً ونَجْداً . إلى أنِ اقتَنَيْتُ هَجْمَةً منَ الرّاغِيَةِ . وثَلّةً منَ الثّاغِيَةِ . ثم أوَيتُ إلى عرَبٍ أرْدافِ أقْيالٍ . وأبناءِ أقوالٍ . فأوْطَنوني أمنَعَ جَنابٍ . وفلّوا عنّي حدّ كُلّ نابٍ . فما تأوّبَني عندَهُم همٌّ . ولا قرَعَ صَفاتيَ سهْمٌ . إلى أنْ أضْلَلْتُ في ليلَةٍ مُنيرةِ البدْرِ . لَقْحةً غَزيرَةَ الدَّرّ . فلمْ أطِبْ نفْساً بإلْغاء طلَبِها . وإلْقاءِ حبْلِها على غارِبِها . فتدثّرْتُ فرَساً مِحْضاراً . واعتقلْتُ لَدْناً خطّاراً . وسرَيْتُ ليْلَتي جمْعاءَ . أجوبُ البَيداءَ . وأقْتَري كلَّ شجْراء ومَرْداء . إلى أن نشرَ الصّبْحُ راياتِهِ . وحَيْعَلَ الدّاعي إلى صَلاتِهِ . فنزَلْتُ عنْ متْنِ الرَّكوبَةِ . لأداء المكْتوبَةِ . ثمّ حُلْتُ في صهْوَتِها . وفرَرْتُ عنْ شحْوَتِها . وسِرْتُ لا أرى أثَراً إلا قفَوْتُهُ . ولا نشَزاً إلا علَوْتُهُ . ولا وادِياً إلا جزَعْتُهُ . ولا راكِباً إلا استَطْلَعْتُهُ . وجِدّي مع ذلِكَ يذهَبُ هدَراً . ولا يجِدُ وِرْدُهُ صدَراً . إلى أن حانَتْ صَكّةُ عُمَيٍّ . ولفْحُ هَجيرٍ يُذْهِلُ غَيْلانَ عنْ مَيٍّ . وكان يوْماً أطْوَلَ من ظِلّ القَناةِ . وأحَرَّ منْ دمْعِ المِقْلاتِ . فأيقَنْتُ أني إنْ لمْ أستَكِنّ منَ الوَقْدَةِ . وأستَجِمّ بالرّقْدَةِ . أدْنَفَني اللُّغوبُ . وعلِقَتْ بي شَعوبُ . فعُجْتُ إلى سرْحَةٍ كَثيفَةِ الأغصانِ . وريقَةِ الأفْنانِ . لأغَوّرَ تحْتَها إلى المُغَيرِبانِ . فوَاللهِ ما اسْتَرْوَحَ نفَسي . ولا اسْتَراحَ فرَسي . حتى نظَرْتُ إلى سانِحٍ . في هيئَةِ سائِحٍ . وهوَ ينتَجِعُ نُجْعَتي . ويشتَدّ إلى بُقعَتي . فكرِهْتُ انْعِياجَهُ إلى مَعاجي . فاستعَذْتُ باللهِ منْ شرّ كُلّ مُفاجي . ثمّ ترجّيْتُ أن يتصدّى مُنشِداً . أو يتبدّى مُرشِداً . فلمّا اقترَبَ منْ سرْحَتي . وكادَ يحِلّ بساحَتي . ألفَيْتُهُ شيخَنا السَّروجيَّ مُتّشِحاً بجِرابثهِ . ومُضْطَغِناً أُهْبَةَ تَجْوابِهِ . فآنسَني إذْ وردَ . وأنْساني ما شرَدَ . ثمّ استَوْضَحْتُهُ منْ أينَ أثَرُهُ . وكيفَ عُجَرُهُ وبُجَرُهُ ؟ فأنشَدَ بَديهاً . ولمْ يَقُلْ إيهاً :
قُلْ لمُستَطلِعٍ دَخيلَةَ أمري . . . لكَ عِندي كَرامَةً وعَزازَهْ
أنا ما بينَ جوْبِ أرضٍ فأرْضٍ . . . وسُرًى في مَفازَةٍ فمَفازَهْ
زادِيَ الصّيدُ والمَطيّةُ نعْلي . . . وجَهازِي الجِرابُ والعُكّازَهْ
فإذا ما هبَطْتُ مِصْراً فبَيْتي . . . غُرفَةُ الخانِ والنّديمُ جُزارَهْ
ليسَ لي ما أُساءُ إنْ فاتَ أوْ أح . . . زَنُ إنْ حاولَ الزّمانُ ابتِزازَهْ
غيرَ أني أبيتُ خِلْواً منَ اله . . . مّ ونَفْسي عنِ الأسى مُنْحازَهْ
أرْقُدُ الليلَ مِلْءَ جَفْني وقَلْبي . . . بارِدٌ منْ حَرارةٍ وحَزازَهْ
لا أُبالي منْ أيّ كأسٍ تفوّقْ . . . تُ ولا ما حَلاوَةٌ منْ مَزازَهْ
لا ولا أستَجيزُ أن أجعَلَ الذ . . . لّ مَجازاً إلى تسَنّي إجازَهْ
وإذا مطْلَبٌ كسا حُلّةَ العا . . . رِ فبُعْداً لمَنْ يَرومُ نَجازَهْ
ومتى اهتزّ للدّناءةِ نِكْسٌ . . . عافَ طبْعي طِباعَهُ واهتِزازَهْ
فالمَنايا ولا الدّنايا وخيْرٌ . . . من رُكوبِ الخَنا رُكوبُ الجِنازَهْ ثم رفعَ إليّ طَرْفَهُ . وقال : لأمْرٍ ما جدَعَ قَصيرٌ أنفَهُ . فأخبَرْتُهُ خبرَ ناقَتي السّارِحةِ . وما عانَيْتُهُ في يومي والبارِحَةِ . فقال : دعِ الالْتِفاتَ . إلى ما فاتَ . والطِّماحَ . إلى ما طاحَ . ولا تأسَ على ما ذهبَ . ولوْ أنهُ وادٍ منْ ذهبٍ . ولا تستَمِلْ مَنْ مالَ عنْ ريحِكَ . وأضْرَمَ نارَ تَباريحِكَ . ولوْ كان ابنَ بوحِكَ . أوْ شَقيقَ روحِكَ . ثمّ قال : هلْ لكَ في أن تَقيلَ . وتتحامَى القالَ والقيلَ ؟
فإنّ الأبْدانَ أنْضاءُ تعَبٍ . والهاجِرَةَ ذاتُ لهَبٍ . ولنْ يصْقُلَ الخاطِرَ . ويُنشّطَ الفاتِرَ . كقائِلَةِ الهَواجِرِ . وخُصوصاً في شهْرَيْ ناجِرٍ . فقلتُ : ذاكَ إليْكَ . وما أُريدُ أنْ أشُقّ علَيْكَ . فافتَرَشَ التُّرْبَ واضْطجَعَ . وأظْهَرَ أنْ قدْ هجَع . وارتَفَقْتُ على أن أحرُسَ . ولا أنْعَسَ . فأخَذَتْني السِّنَةُ . إذْ زُمّتِ الألسِنَةُ . فلمْ أُفِقْ إلا والليلُ قد تولّجَ . والنّجْمُ قد تبلّجَ . ولا السّروجيّ ولا المُسرَجَ . فبِتُّ بلَيلَةٍ نابِغيّةٍ . وأحْزانٍ يَعقوبيّةٍ . أُساوِرُ الوُجومَ . وأُساهِرُ النّجومَ . أفكّرُ تارَةً في رُجْلَتي . وأخْرى في رَجْعَتي . إلى أنْ وضَحَ لي عِندَ افتِرارِ ثغْرِ الضّوّ . في وجْهِ الجوّ . راكِبٌ يخِدُ في الدّوّ . فألْمَعْتُ إليْهِ بثَوْبي . ورجوْتُ أن يُعَرّجَ إلى صوْبي . فلمْ يعْبأ بإلْماعي . ولا أوى لالْتِياعي . بلْ سارَ على هَيْنَتِهِ . وأصْماني بسهْمِ إهانَتِهِ . فأوفَضْتُ إلَيْهِ لأستَرْدِفَه . وأحْتَمِلَ تغطْرُفَهُ . فلمّا أدرَكْتُهُ بعْدَ الأينِ . وأجَلْتُ فيهِ مسْرَحَ العينِ . وجدْتُ ناقَتي مَطيّتَهُ . وضالّتي لُقطتَهُ . فما كذّبتُ أنْ أذْرَيْتُهُ عن سَنامِها . وجاذَبْتُهُ طرَفَ زِمامِها . وقلتُ لهُ : أنا صاحِبُها ومُضِلُّها . 
ولي رِسلُها ونسْلُها . فلا تكُنْ كأشْعَبَ . فتُتْعِبَ وتَتْعَبَ . فأخذَ يلْدَغُ ويَصْئي . ويتّقِحُ ولا يَستَحْيي . وبَيْنا هوَ ينْزو ويَلينُ . ويستَأسِدُ ويسْتَكينُ . إذْ غَشينا أبو زيْدٍ لابِساً جِلدَ النّمِرِ . وهاجِماً هُجومَ السّيلِ المُنهَمِرِ . فخِفْتُ واللهِ أنْ يكونَ يومُهُ كأمْسِهِ . وبدرُهُ مثلَ شمْسِهِ . فألحَقَ بالقارِظَينِ . وأصيرَ خبَراً بعْدَ عَينٍ . فلمْ أرَ إلا أنْ أذكَرْتُهُ العُهودَ المنسيّةَ . والفَعْلَةَ الإمْسيّةَ . وناشَدْتُهُ اللهَ . أوافَى للتّلافي . أمْ لِما فيهِ إتْلافي . فقال : مَعاذَ اللهِ أنْ أُجهِزَ على مَكْلومي . أو أصِلَ حَروري بسَمومي بلْ وافَيْتُكَ لأخْبُرَ كُنْهَ حالِكَ . وأكونَ يَميناً لشِمالِكَ . فسكَنَ عندَ ذلِك جاشِي . وانْجابَ استِيحاشي . وأطلَعْتُهُ طِلْعَ اللِّقْحَةِ . وتبَرْقُعَ صاحِبي بالقِحَةِ . فنظَرَ إلَيْهِ نظرَ ليْثِ العِرّيسَةِ . إلى الفَريسَةِ . ثمّ أشْرَعَ قِبَلَهُ الرّمْحَ . وأقْسَمَ لهُ بمَنْ أنارَ الصبْحَ . لَئِنْ لمْ ينْجُ مَنْجَى الذُّبابِ . ويرْضَ منَ الغَنيمَةِ بالإيابِ . لَيورِدَنّ سِنانَهُ وَريدَهُ . ولَيَفْجَعَنّ بهِ وَليدَهُ ووَديدَهُ . فنبَذَ زِمامَ النآقَةِ وحاصَ . وأفلَتَ ولهُ حُصاصٌ . فقال لي أبو زيدٍ : تسَلّمْها وتسَنّمْها . فإنّها إحْدى الحُسْنَيَينِ . ووَيْلٌ أهوَنُ من وَيْلَينِ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فحِرْتُ بينَ لوْمِ أبي زيدٍ وشُكْرِهِ . وزِنَةِ نفْعِهِ بضُرّهِ . فكأنّهُ نوجِيَ بذاتِ صدْري . أو تكهّنَ ما خامَرَ سِرّي . فقابلَني بوجْهٍ طَليقٍ . وأنشدَ بلِسانٍ ذَليقٍ :
يا أخي الحامِلَ ضَيْمي . . . دونَ إخْواني وقوْمي
إنْ يكُنْ ساءكَ أمْسي . . . فلقَدْ سرّكَ يوْمي
فاغْتَفِرْ ذاكَ لِهذا . . . واطّرِحْ شكري ولوْمي
ثمّ قال : أنا تَئِقٌ . وأنتَ مَئِقٌ . فكيْفَ نتّفِقُ ؟ وولّى يفْري أديم الأرضِ . ويرْكُضُ طِرْفَهُ أيّما رَكْضٍ . فما عدَوْتُ أنِ اقْتَعَدْتُ مَطيّتي . وعُدْتُ لطِيّتي . حتى وصلْتُ إلى حِلّتي . بعدَ اللّتَيّا والتي .











مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید