المنشورات

المقامة الصّوريّة

حكى الحارثُ بنُ همّام قال : ارْتَحلْتُ من مدينةِ المنصورِ . إلى بلدَةِ صورٍ . فلمّا حصلْتُ به ذا رِفعَةٍ وخفْضٍ . ومالِكَ رفْعٍ وخفضٍ . تُقْتُ إلى مِصْرَ توَقانَ السّقيمِ إلى الأُساةِ . والكريمِ إلى المؤاساةِ . فرفَضْتُ علائِقَ الاستِقامَةِ . ونفَضْتُ عوائِقَ الإقامةِ . واعْرَوْرَيْتُ ظَهْرَ ابنِ النّعامَةِ . وأجفَلْتُ نحوَها إجْفالَ النّعامَةِ . فلمّا دخلْتُه بعدَ مُعاناةِ الأينِ . ومُداناةِ الحَيْنِ . كلِفْتُ به كلَفَ لنّشْوانِ بالاصْطِباحِ . والحَيَرانِ بتنفُّسِ الصّباحِ . فبَينَما أنا يوْمً به أطوفُ . وتحْتي فرسٌ قَطوفٌ . إذ رأيتُ على جُرْدٍ منَ الخيْلِ . عُصبَةً كمَصابيحِ الليْلِ . فسألْتُ لانتِجاعِ النّزْهَةِ . عنِ العُصبَةِ والوِجهَةِ . فقيلَ : أما القومُ فشُهودٌ . وأمّا المقْصِدُ فإمْلاكٌ مشهودٌ . فحدَتْني مَيعَةُ النّشاطِ . على أنْ سِرْتُ معَ الفُرّاطِ . لأفوز بحلاوَةِ اللُّقَاطِ . وأحوزَ حَلْواءَ السِّماطِ . فأفْضيْنا بعدَ مُكابدَةِ العَناء . إلى دارٍ رفيعَةِ البِناء . وسيعَةِ الفِناء . تشهَدُ لِبانيها بالثّراء والسّناء . فلمّا نزلْنا عنْ صهَواتِ الخُيولِ . وقدّمنا الأقْدامَ للدّخولِ . رأيتُ دِهْليزَها مُجَلّلاً بأطْمارٍ مُخرّقةٍ . ومُكلّلاً بمخارِفَ معلّقَةٍ . وهناكَ شخصٌ على قَطيفَةٍ . فوقَ دَكّةٍ لَطيفَةٍ . فرابني عُنوانُ الصّحيفةِ . ومرْأى هذِه الطّريفَةِ . ودعاني التّطيّرُ بتِلْكَ المناحِسِ . إلى أن عمَدْتُ لذَلِكَ الجالِسِ . فعزَمْتُ عليْهِ بمُصَرِّفِ الأقدارِ . ليُعَرّفَني مَنْ رَبُّ هذهِ الدّارِ . فقال : ليسَ لها مالِكٌ معيَّنٌ . ولا صاحِبٌ مُبيَّنٌ . إنّما هيَ مَصطَبَةُ المُقيِّفينَ والمدَرْوِزينَ . ووَليجَةُ المُشَقشِقينَ والُجَلْوِزينَ . فقلتُ في نفسي : إنّا للهِ على ضِلّةِ المسْعى . وإمْحالِ المرْعى . وهمَمْتُ في الحالِ بالرُّجْعى . لكنّي استَهْجَنتُ العَوْدَ منْ فوْري . والقهْقَرَةَ دونَ غيري . فوَلجْتُ الدّارَ متجرِّعاً الغُصَصَ . كما يلِجُ العُصفورُ القفَصَ . فإذا فيه أرائِكُ منقوشَةٌ . وقد أقبَلَ المُمْلِكُ يَميسُ في بُردتِهِ . ويتَبَهْنَسُ بين حفَدَتِهِ . فحين جلَسَ كأنّهُ ابنُ ماء السّماء . نادى مُنادٍ منْ قِبَلِ الأحْماء : وحُرْمَةِ ساسانَ أُستاذِ الأستاذينَ . وقدوةِ الشّحاذينَ . لا عقَدَ هذا العقْدَ المُبجَّلَ . في هذا اليوم الأغرّ المحجَّلِ . إلا الذي جالَ وجابَ . وشبّ في الكُدْيَةِ وشابَ فأعْجَبَ رهْطَ الصِّهْرِ ما أشاروا إليْهِ . وأذِنوا في إحْضارِ المنصوصِ عليْهِ . فبرزَ حينئذٍ شيخٌ قد أمالَ الملَوانِ قامتَهُ . ونوّرَ الفَتَيانِ ثَغامتَهُ . فتباشرَتِ الجماعةُ بإقْبالِهِ . وتبادَرَتْ إلى استِقبالِهِ . فلمّا جلَس على زُرْبِيّتِهِ . وسكنتِ الضّوْضاءُ لهيبَتِهِ . ازْدَلَفَ إلى مسْنَدِهِ . ومسحَ سَبلَتَهُ بيَدهِ . ثمّ قال : الحمدُ للهِ المُبتَدِئِ بالإفْضالِ . المُبتَدِعِ للنّوالِ . المقرَّبِ إليْهِ بالسّؤالِ . المؤمَّلِ لتحقيقِ الآمالِ . الذي شرعَ الزّكاةَ في الأموال . وزجَرَ عنْ نهْرِ السؤالِ وندَبَ إلى مواساةِ المُضطَرّ . وأمرَ بإطْعامِ القانِعِ والمعْتَرّ . ووصَفَ عِبادَهُ المقرَّبينَ . في كِتابِهِ المُبينِ . فقال وهوَ أصدَقُ القائلينَ : والذين في أموالِهِمْ حقٌّ معلومٌ . للسائِلِ والحرومِ . أحمَدُهُ على ما رزَقَ منْ طُعمَةٍ هنيّةٍ . وأعوذُ بهِ منِ استِماعِ دعوَةٍ بلا نِيّةٍ . وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهاً يَجزي المتصدّقينَ والمُتصَدّقاتِ .
ويمحَقُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ . وأشهَدُ أنّ محمّداً عبدُهُ الرّحيمُ . ورسولُهُ الكريمُ . ابتَعَثَهُ ليَنسخَ الظُلمَةَ بالضّياء . وينتَصِفَ للفُقراء منَ الأغنياء . فرَفَقَ ، صلى اللهُ عليهِ وسلّم ، بالمِسْكينِ . وخفَضَ جَناحَهُ للمُستَكينِ . وفرضَ الحُقوقَ في أموالِ المُثْرينَ . وبيّنَ ما يجِبُ للمُقلّينَ على المُكثِرينَ . صلّى اللهُ عليْهِ صَلاةً تُحْظيهِ بالزُّلْفَةِ . وعلى أصفِيائِه أهلِ الصُّفّةِ . أما بعْدُ فإنّ اللهَ تعالى شرعَ النكاحَ لتَتَعفّفوا . وسنّ التّناسُلَ لكيْ تتضاعفوا . فقال سُبحانَهُ لتَعرِفوا : يا أيّها الناسُ إنّا خلَقْناكُمْ من ذكَرٍ وأنثى وجعلْناكُمْ شُعوباً وقَبائِلَ لتَعارَفوا . وهذا أبو الدّرّاجِ . ولاّجُ بنُ خرّاجٍ . ذو الوَجْهِ الوَقاحِ . والإفْكِ الصُّراحِ . والهَريرِ والصّياحِ . والإبْرام والإلْحاحِ . يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها . وشَريطَةَ بعلِه . قَنْبَسَ . بِنْتَ أبي العَنْبَسِ . لِما بلغَهُ منِ التِحافِها . بإلْحافِها . وإسْرافه . في إسْفافِها . وانْكِماشِها . على مَعاشِها . وانتِعاشِها . عندَ هِراشِها . وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً . وصِقاعاً وكزّازاً . فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ . وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ . وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ . أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ . وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ . ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ . فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ . وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ . تساقَطَ منَ النِّثارِ . ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ . وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ . ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ . ويَقْدُمُ أراذِلَهُ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم . وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ . فعاجَ بهِمْ إلى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ . وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ . فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ . وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ . انسلَلْتُ منَ الصّفّ . وفررْتُ منَ الزّحْفِ . فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ . ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ . فقال : إلى أينَ يا بُرَمُ . هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ ؟ فقلت : والذي خلقَها طِباقاً . وطبّقها إشْراقاً . لا ذُقتُ لَماقاً . ولا لُسْتُ رُقاقاً . أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ . ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ ؟ فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً . وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً . حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ . استَنْصَتَ الجمْعَ . وقال لي : أرْعِني السّمْعَ : الوَجْهِ الوَقاحِ . والإفْكِ الصُّراحِ . والهَريرِ والصّياحِ . والإبْرام والإلْحاحِ . يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها . وشَريطَةَ بعلِه . قَنْبَسَ . بِنْتَ أبي العَنْبَسِ . لِما بلغَهُ منِ التِحافِها . بإلْحافِها . وإسْرافه . في إسْفافِها . وانْكِماشِها . على مَعاشِها . وانتِعاشِها . عندَ هِراشِها . وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً . وصِقاعاً وكزّازاً . فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ . وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ . وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ . أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ . وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ . ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ . فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ . وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ . تساقَطَ منَ النِّثارِ . ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ . وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ . ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ . ويَقْدُمُ أراذِلَهُ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم . وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ . فعاجَ بهِمْ إلى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ . وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ . فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ . وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ . انسلَلْتُ منَ الصّفّ . وفررْتُ منَ الزّحْفِ . فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ . ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ . فقال : إلى أينَ يا بُرَمُ . هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ ؟ فقلت : والذي خلقَها طِباقاً . وطبّقها إشْراقاً . لا ذُقتُ لَماقاً . ولا لُسْتُ رُقاقاً . أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ . ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ ؟ فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً . وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً . حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ . استَنْصَتَ الجمْعَ . وقال لي : أرْعِني السّمْعَ :
مَسقَطُ الرّأسِ سَروجُ . . . وبها كنتُ أموجُ
بلدَةٌ يوجَدُ فيها . . . كُلُّ شيءٍ ويَروجُ
ورِدْها منْ سَلسَبيلٍ . . . وصحارِيها مُروجُ
وبَنوها ومَغاني . . . هِمْ نُجومٌ وبُروجُ
حبّذا نفْحَةُ ريّا . . . ها ومَرآها البَهيجُ
وأزاهيرُ رُباها . . . حينَ تنْجابُ الثّلوجُ
منْ رآها قال مرْسى . . . جنّةِ الدّنْيا سَروجُ
ولمَنْ ينْزاحُ عنها . . . زفَراتٌ ونشيجُ
مثلُ ما لاقَيتُ مُذْ زَحْ . . . زَحَني عنْها العُلوجُ عَبرَةٌ تهْمي وشجْوٌ . . . كلّما قَرّ يَهيجُ
وهُمومٌ كُلَّ يومٍ . . . خطْبُها خطْبٌ مَريجُ
ومساعٍ في التّرَجّي . . . قاصِراتُ الخَطْوِ عوجُ
ليتَ يومي حُمَّ لمّا . . . حُمّ لي منْها الخُروجُ
قال : فلمّا بيّن بلَدَهُ . ووعَيْتُ ما أنشدَهُ . أيقَنْتُ أنهُ علاّمَتُنا أبو زيدٍ . وإنْ كان الهرَمُ قد أوثَقَهُ بقَيدٍ . فبادَرْتُ إلى مُصافحَتِهِ . واغْتَنَمْتُ مؤاكَلَتَهُ منْ صحْفَتِهِ . وظَلْتُ مدّةَ مَقاميَ بمِصْرَ أعْشو إلى شُواظِهِ . وأحْشو صدَفَتَيّ منْ دُرَرِ ألْفاظِهِ . إلى أنْ نعَبَ بينَنا غُرابُ البَينِ . ففارَقْتُهُ مُفارقَةَ الجفْنِ للعَينِ .













مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید