المنشورات

المقامة المَرْوِيَّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حُبّبَ إليّ مُذْ سعَتْ قدَمي. ونفَثَ قلَمي. أنْ أتّخِذَ الأدَبَ شِرْعَةً. والاقتِباسَ منهُ نُجْعَةً. فكُنتُ أنَقّبُ عنْ أخبارِهِ. وخزَنَةِ أسْرارِهِ. فإذا ألْفَيْتُ منهُمْ بُغيَةَ الملتَمِسِ . وجُذْوَةَ المُقتَبِسِ . شدَدْتُ يَدي بغَرْزِهِ . واستَنزَلْتُ منهُ زَكاةَ كنزِهِ . على أنّي لمْ ألْقَ كالسَّروجيّ في غَزارَةِ السُّحْبِ . ووضْعِ الهِناء مَواضِعَ النُّقْبِ . إلا أنهُ كانَ أسْيَرَ منَ المثَلِ . وأسرَعَ منَ القمَرِ في النُّقَلِ . وكنتُ لهَوى مُلاقاتِهِ . واستِحْسانِ مَقاماتِهِ . أرْغَبُ في الاغتِرابِ . وأستَعْذِبُ السّفَرَ الذي هوَ قِطعَةٌ من العَذابِ . فلمّا تطوّحْتُ إلى مرْوَ . ولا غَرْوَ . بشّرَني بمَلقاهُ زجْرُ الطّيرِ . والفألُ الذي هوَ بَريدُ الخيرِ . فلمْ أزَلْ أنشُدُهُ في المحافِلِ . وعندَ تلَقّي القَوافِلِ . فلا أجِدُ عنْهُ مُخبِراً . ولا أرى لهُ أثَراً ولا عِثْيَراً . حتى غلَبَ اليأسُ الطّمَعَ . وانْزَوى التّأميلُ وانْقمَعَ . فإني لَذاتَ يومٍ بحضْرَةِ والي مرْوَ . وكانَ ممّنْ جمَعَ الفضْلَ والسَّرْوَ . إذ طلَعَ أبو زيْدٍ في خلَقٍ مِمْلاقٍ . وخُلُقٍ مَلاّقٍ . فحَيّا تحيّةَ المُحْتاجِ . إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ . ثمّ قالَ لهُ : اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ . وكُفيتَ الهَمّ . أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ . أُعْلِقَتْ بهِ الأمالُ . ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ . رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ . وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ .
وواتاهُ القدَرُ . أدّى زكاةَ النِّعَمِ . كما يؤدّي زكاةَ النَّعَمِ . والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ . ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ . وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ . وعِمادَ عصْرِكَ . تُزْجى الرّكائِبُ إلى حرَمِكَ . وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ . وتُنزَلُ المَطالِبُ بساحَتِكَ . وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِكَ . وكان فضلُ اللهِ عليْكَ عظيماً . وإحْسانُهُ لديْكَ عَميماً . ثمّ إني شيخٌ ترِبَ بعْدَ الإتْرابِ . وعدِمَ الإعْشابَ حينَ شابَ . قصَدْتُكَ منْ محَلّةٍ نازِحَةٍ . وحالَةٍ رازِحَةٍ . آمُلُ منْ بحرِكَ دُفعَةً . ومنْ جاهِكَ رِفعَةً . والتّأميلُ أفضَلُ وسائِلِ السائِلِ . ونائِلِ النّائِلِ . فأوْجِبْ لي ما يجِبُ عليْكَ . وأحسِنْ كما أحْسَنَ اللهُ إليْكَ . وإيّاكَ أن تلْويَ عِذارَكَ . عمَّنِ ازْدَراكَ . وأمَّ دارَكَ . أو تقبِضَ راحَكَ . عمّنِ امْتاحَكَ . وامْتارَ سَماحَكَ . فوَاللهِ ما مجَدَ مَنْ جمَدَ . ولا رشَدَ منْ حشَدَ . بلِ اللّبيبُ مَنْ إذا وجَدَ جادَ . وإنْ بَدأ بعائِدَةٍ عادَ . والكَريمُ منْ إذا استُوهِبَ الذّهَبَ . لمْ يهَبْ أنْ يهَبَ . ثمّ أمْسَكَ يرْقُبُ أُكُلَ غرْسِهِ . ويرْصُدُ مطيبَةَ نفْسِهِ . وأحَبَّ الوالي أنْ يعْلَمَ هلْ نُطفَتُهُ ثمَدٌ . أم لقَريحَتِهِ مدَدٌ . فأطْرَقَ يرَوّي في استيراء زَنْدِهِ . واستِشْفافِ فِرِنْدِهِ . والتَبَسَ على أبي زيدٍ سِرُّ صَمْتَتِهِ . وإرْجاءِ صِلَتِهِ . فتوَغّرَ غضَباً . وأنْشَدَ مُقتَضِباً :
لا تحقِرَنّ أبيْتَ اللّعنَ ذا أدبٍ . . . لأنْ بَدا خلَقَ السّرْبالِ سُروتا
ولا تُضِعْ لأخي التّأميلِ حُرمتَهُ . . . أكانَ ذا لسَنٍ أم كان سِكّيتا
وانفَحْ بعُرْفِكَ منْ وافاكَ مختَبطاً . . . وانعَشْ بغَوْثِكَ من ألفيتَ مَنكوتا
فخَيرُ مالِ الفتى مالٌ أشادَ لهُ . . . ذِكْراً تناقَلَهُ الرُكبانُ أو صِيتا
وما على المُشتَري حمْداً بمَوْهِبَةٍ . . . غبنٌ ولوْ كان ما أعْطاهُ ياقوتا
لوْلا المُروءةُ ضاقَ العُذْرُ عن فَطِنٍ . . . إذا اشْرأبّ إلى ما جاوَزَ القوتا
لكنّهُ لابْتِناء المجْدِ جدّ ومِنْ . . . حُبّ السّماحِ ثنَى نحوَ العُلى لِيتا
وما تنشّقَ نشْرَ الشّكْرِ ذو كرَمٍ . . . إلا وأزْرى بنَشرِ المِسكِ مَفتوتا
والحمدُ والبخلُ لم يُقضَ اجتماعهما . . . حتى لقَدْ خيلَ ذا ضَبّاً وذا حوتَا
والسّمحُ في الناسِ محبوبٌ خلائِقُهُ . . . والجامدُ الكفّ ما ينْفَكّ ممْقوتا
وللشّحيحِ على أمْوالِهِ علَلٌ . . . يوسِعْنَهُ أبَداً ذمّاً وتبْكيتا
فجُدْ بما جمَعتْ كفّاكَ من نشَبٍ . . . حتى يُرَى مُجْتَدي جَدواكَ مَبهوتا
وخُذْ نصيبَكَ منهُ قبلَ رائِعَةٍ . . . من الزّمانِ تُريكَ العودَ منحوتا
فالدّهْرُ أنكَدُ من أن تستَمرّ بهِ . . . حالٌ تكرّهْتَ تلكَ الحالَ أم شيتا
فقال لهُ الوالي : تاللهِ لقدْ أحسَنْتَ . فأيُّ ولَدِ الرّجُلِ أنتَ ؟ فنظَرَ إليْهِ عنْ عُرْضٍ . وأنشَدَ وهُوَ مُغْضٍ :
لا تسْألِ المرْءَ مَنْ أبوهُ ورُزْ . . . خلالَهُ ثمّ صِلْهُ أو فاصْرِمِ
فما يَشينُ السُّلافَ حينَ حَلا . . . مَذاقُها كونُها ابنَةَ الحِصْرِمِ
قال : فقرّبَهُ الوالي لبَيانِهِ الفاتِنِ . حتى أحلّهُ مقْعَدَ الخاتِنِ . ثمّ فرَضَ له من سُيوبِ نيْلِهِ . ما آذنَ بطولِ ذَيلِهِ . وقِصَرِ لَيلِهِ . فنهَضَ عنْهُ برُدْنٍ مَلآنَ . وقلْبٍ جذْلانَ . وتبِعْتُهُ حاذِياً حَذْوَهُ . وقافِياً خَطْوَهُ . حتى إذا خرَجَ منْ بابِهِ . وفصَلَ عنْ غابِهِ . قُلتُ لهُ : هُنّئْتَ بِما أوتيتَ . ومُلّيتَ بِما أُوليتَ فأسْفَرَ وجهُهُ وتَلالا . ووالى شُكْراً للهِ تَعالى . ثمّ خطَرَ اخْتِيالاً . وأنشدَ ارتِجالاً :
منْ يكُنْ نالَ بالحَماقَةِ حَظّاً . . . أو سَما قدرُهُ لِطيبِ الأصولِ
فبِفَضْلي انتَفَعْتُ لا بفُضولي . . . وبقَوْلي ارتفَعْتُ لا بقُيولي
ثم قال : تَعْساً لمَنْ جدَبَ الأدَبَ . وطوبى لمَنْ جدّ فيهِ ودأبَ ثمّ ودّعَني وذهَبَ . وأوْدَعَني اللَّهَبَ .















مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید