المنشورات

المقامة التبريزيّة

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أزْمَعْتُ التّبريزَ منْ تبريزَ. حينَ نبَتْ بالذّليلِ والعَزيزِ. وخلَتْ من المُجيرِ والمُجيزِ. فبَيْنا أنا في إعدادِ الأُهبَةِ . وارْتِيادِ الصُحْبَةِ . ألْفَيتُ بها أبا زيدٍ السَّروجيَّ مُلتَفّاً بكِساءٍ . ومُحْتَفّاً بنِساءٍ . فسألْتُهُ عنْ خطْبِهِ . وإلى أينَ يسْرُبُ مع سِرْبِهِ ؟ فأوْمأ إلى امرأةٍ منهُنّ باهِرَةِ السّفورِ . ظاهِرَةِ النّفورِ . وقال : تزوّجْتُ هذهِ لتؤنِسَني في الغُربَةِ . وترْحَضَ عني قشَفَ العُزْبَةِ . فلَقيتُ منها عرَقَ القِرْبَةِ . تمْطُلُني بحقّي . وتكلّفُني فوْقَ طوْقي . فأنا منها نِضْوُ وَجَى . وحِلْفُ شجْوٍ وشجَى . وها نحْنُ قد تساعَيْنا إلى الحاكِمِ . ليَضْرِبَ على يدِ الظّالِمِ . فإنِ انتظَمَ بيْنَنا الوِفاقُ . وإلا فالطّلاقُ والانطِلاقُ . قال : فمِلْتُ إلى أن أخْبُرَ لمَنِ الغلَبُ . وكيفَ يكونُ المُنقلَبُ . فجعلْتُ شُغْلي دَبْرَ أُذْني . وصحِبتُهُما وإنْ كنتُ لا أُغْني . فلمّا حضَرَ القاضي وكان ممّن يرَى فضْلَ الإمْساكِ . ويضَنُّ بنُفاثَةِ السّواكِ . جَثا أبو زيدٍ بينَ يدَيْهِ . وقال : أيّدَ اللهُ القاضيَ وأحسَنَ إليْهِ . إنّ مطيّتي هذهِ أبيّةُ القِيادِ . كثيرَةُ الشِّرادِ . معَ أني أطْوَعُ لها منْ بَنانِها . وأحْنى عليْها منْ جَنانِها . فقالَ لها القاضي : ويْحَكِ أما علِمْتِ أنّ النُّشوزَ يُغضِبُ الرّبّ . ويوجِبُ الضّرْبَ ؟ فقالتْ : إنّهُ ممّن يدورُ خلْفَ الدارِ . ويأخُذُ الجارَ بالجارِ . فقال لهُ القاضي : تباً لكَ أتَبْذُرُ في السِّباخِ . وتستَفرِخُ حيثُ لا إفْراخَ ؟ اعْزُبْ عني لا نَعِمَ عوفُكَ . ولا أمِنَ خوفُكَ فقالَ أبو زيدٍ : إنها ومُرسِلِ الرّياحِ . لأكْذَبُ منْ سَجاحِ فقالتْ : بل هوَ ومَنْ طوّقَ الحَمامَةَ . وجنّحَ النّعامَةَ . لأكْذَبُ من أبي ثُمامَةَ . حينَ مَخْرَقَ باليَمامَةِ . فزفَرَ أبو زيدٍ زَفيرَ الشُّواظِ . واسْتَشاطَ استِشاطَةَ المُغْتاظِ . وقال لها : ويْلَكِ يا دَفارِ يا فَجارِ . يا غُصّةَ البعْلِ والجارِ أتَعْمِدينَ في الخَلوَةِ لتَعْذيبي . وتُبدينَ في الحَفلَةِ تكْذيبي ؟ وقد علِمْتِ أني حينَ بنَيتُ عليْكِ . ورنَوْتُ إليْكِ . ألفَيتُكِ أقْبَحَ من قِرْدَةٍ . وأيْبَسَ منْ قِدّةٍ . وأخشَنَ من لِيفَةٍ . وأنْتَنَ منْ جيفَةٍ . وأثقَلَ منْ هَيضَةٍ . وأقذَرَ منْ حيضَةٍ . وأبرَزَ من قِشرَةٍ . وأبْرَدَ من قِرّةٍ . وأحمَقَ من رِجلَةٍ . وأوسَعَ منْ دِجلَةَ فستَرْتُ عَوارَكِ . ولمْ أُبْدِ عارَكِ . على أنهُ لوْ حبَتْكِ شيرينُ بجَمالِها . وزُبَيدَةُ بمالِها . وبِلْقيسُ بعَرْشِها . وبُورانُ بفَرْشِها . والزّبّاء بمُلْكِها . ورابِعَةُ بنُسكِها . وخِندِفُ بفَخْرِها . والخنْساءُ بشِعْرِها في صخرِها . لأنِفْتُ أن تكوني قَعيدَةَ رَحْلي . وطَروقَةَ فحْلي قال : فتذمّرَتِ المرأةُ وتنمّرَتْ . وحسَرَتْ عنْ ساعِدِها وشمّرَتْ . وقالتْ لهُ : يا ألأمَ منْ مادِرٍ . وأشْأمَ منْ قاشِرٍ . وأجْبَنَ منْ صافِرٍ . وأطْيَشَ منْ طامِرٍ أتَرْميني بشَنارِكَ . وتَفْري عِرْضي بشِفارِكَ ؟ وأنتَ تعْلَمُ أنكَ أحقَرُ منْ قُلامَةٍ . وأعْيَبُ منْ بَغْلةِ أبي دُلامَةَ . وأفضَحُ منْ حَبْقَةٍ . في حلْقَةٍ . وأحْيَرُ منْ بَقّةٍ . في حُقّةٍ وهَبْكَ الحَسَنَ في وعْظِهِ ولفْظِهِ . والشّعْبيَّ في عِلْمِهِ وحِفْظِهِ . والخَليلَ في عَروضِهِ ونحوِهِ . وجَريراً في غزَلِهِ وهجْوِهِ . وقُسّاً في فَصاحَتِهِ وخِطابَتِهِ . وعبْدَ الحَميدِ في بَلاغَتِهِ وكِتابَتِهِ . وأبا عَمْرٍو في قِراءتِهِ وإعْرابِهِ .
وابنَ قُرَيبٍ في رِوايَتِهِ عنْ أعْرابِهِ . أتظُنّني أرْضاكَ إماماً لمِحْرابي . وحُساماً لقِرابي ؟ لا واللهِ ولا بَوّاباً لِبابي . ولا عَصاً لجِرابي فقالَ لهُما القاضي : أراكُما شَنّاً وطَبقةَ . وحِدَأةً وبُندُقَةً . فاتْرُكْ أيّها الرّجُلُ اللَّدَدَ . واسْلُكْ في سيْرِكَ الجَدَدَ . وأمّا أنْتِ فكُفّي عنْ سِبابِهِ . وقِرّي إذا أتى البَيتَ منْ بابِهِ . فقالَتِ المرأةُ : واللهِ ما أسْجُنُ عنهُ لِساني . إلا إذا كَساني . ولا أرْفَعُ لهُ شِراعي . دونَ إشْباعي . فحلَفَ أبو زيْدٍ بالمُحَرِّجاتِ الثّلاثِ . أنهُ لا يملِكُ سوى أطْمارِهِ الرِّثاثِ . فنظَرَ القاضي في قَصَصِهِما نظَرَ الألمَعيّ . وأفْكَرَ فِكرَةَ اللّوذَعيّ . ثمّ أقبلَ عليْهِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ . ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ . وقال : ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ . والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ . حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ . إلى خُبْثِ المُخادَعَةِ ؟ وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ . ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ . فإنّ أميرَ المؤمِنينَ . أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ . نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء . لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء . وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ . وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ . لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما . وخَبيئَةَ خِبّكُما . لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ . ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ . ثمّ قالَ لهُ : سَماعِ سَماعِ : هِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ . ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ . وقال : ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ . والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ . حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ . إلى خُبْثِ المُخادَعَةِ ؟ وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ . ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ . فإنّ أميرَ المؤمِنينَ . أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ . نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء . لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء . وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ . وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ . لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما . وخَبيئَةَ خِبّكُما . لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ . ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ . ثمّ قالَ لهُ : سَماعِ سَماعِ :
أنا السَّروجيّ وهَذي عِرْسي . . . وليسَ كُفْؤُ البدْرِ غيرَ الشّمسِ
وما تَنافى أُنسُها وأُنسي . . . ولا تَناءى ديرُها عنْ قَسّي
ولا عدَتْ سُقْيايَ أرْضَ غَرْسي . . . لكِنّنا منذُ لَيالٍ خمْسِ
نُصبحُ في ثوبِ الطّوى ونُمْسي . . . لا نعرِفُ المَضْغَ ولا التّحَسّي
حتى كأنّا لخُفوتِ النّفْسِ . . . أشْباحُ مَوْتى نُشِروا منْ رَمْسِ
فحينَ عزّ الصّبرُ والتأسّي . . . وشَفّنا الضُرُّ الأليمُ المَسّ
قُمْنا لسَعْدِ الجَدّ أو للنّحْسِ . . . هذا المَقامَ لاجتِلابِ فَلْسِ
والفَقْرُ يُلْحي الحُرَّ حينَ يُرْسي . . . إلى التّحَلّي في لِباسِ اللَّبْسِ
فهذِهِ حالي وهَذا دَرْسي . . . فانظُرْ إلى يوْمي وسَلْ عن أمسي
وأمُرْ بجَبري إنْ تَشا أو حبْسي . . . ففي يدَيْكَ صحّتي ونُكْسي
فقالَ لهُ القاضي : ليَثُبْ أُنسُكَ . ولْتَطِبْ نفسُكَ . فقد حقّ لكَ أن تُغفَرَ خَطيّتُكَ . وتُوَفَّرَ عطيّتُكَ . فثارَتِ الزّوجَةُ عندَ ذلِك واستَطالَتْ . وأشارَتْ إلى الحاضِرينَ وقالتْ :
يا أهلَ تبريزَ لكُمْ حاكِمٌ . . . أوْفى على الحُكّامِ تبْريزا
ما فيهِ من عيْبٍ سوى أنهُ . . . يومَ النّدى قِسمَتُهُ ضِيزَى
قصَدْتُهُ والشيخُ نبْغي جَنى . . . عودٍ لهُ ما زال مهْزوزا
فسَرّحَ الشيخَ وقد نالَ منْ . . . جَدْواهُ تخْصيصاً وتمْييزا
وردّني أخْيَبَ منْ شائِمٍ . . . بَرْقاً خَفا في شهْرِ تمّوزا
كأنّهُ لمْ يدْرِ أني التي . . . لقّنْتُ ذا الشّيخَ الأراجيزا
وأنّني إنْ شِئْتُ غادَرْتُهُ . . . أُضْحوكَةً في أهلِ تَبْريزا قال : فلمّا رأى القاضي اجْتِراء جَنانِهِما . وانصِلاتَ لِسانِهِما . علِمَ أنهُ قد مُنيَ منهُما بالدّاء العَياء . والداهِيَةِ الدّهْياء . وأنهُ مَتى منَحَ أحدَ الزّوجينِ . وصرَفَ الآخرَ صَفْرَ اليَديْنِ . كان كمَنْ قضى الدّيْنَ بالدَّيْنِ . أو صلّى المغرِبَ ركْعتَينِ . فطَلْسَمَ وطرْسَمَ . واخْرَنْطَمَ وبرْطَمَ . وهمْهَمَ وغمْغَمَ . ثمّ التفَتَ يَمنَةً وشامةً . وتملْمَلَ كآبَةً ونَدامَةً . وأخذ يذُمّ القضاء ومَتاعِبَهُ . ويَعُدّ شوائِبَهُ ونَوائِبَهُ . ويفَنّدُ طالِبَهُ وخاطِبَهُ . ثمّ تنفّسَ كما يتنفّسُ الحَريبُ . وانتَحَبَ حتى كادَ يفضَحُهُ النّحيبُ . وقال : إنّ هذا لَشَيْءٌ عجيبٌ . أأُرْشَقُ في موقِفٍ بسَهْمَيْنِ . أأُلزَمُ في قَضيّةٍ بمَغْرَمَينِ . أأُطيقُ أنْ أُرضيَ الخصْمَينِ . ومنْ أينَ ومِنْ أينَ ؟ ثمّ عطَفَ إلى حاجِبِه . المُنفِذِ لمآرِبِهِ . وقال : ما هذا يومُ حُكْمٍ وقَضاءٍ . وفصْلٍ وإمْضاءٍ هذا يومُ الاعتِمامِ . هذا يومُ الاغْتِرامِ . هذا يومُ البُحْرانِ . هذا يومُ الخُسْرانِ هذا يومٌ عصيبٌ . هذا يومٌ نُصابُ فيهِ ولا نُصيبُ فأرِحْني منْ هذَينِ المِهذارَيْنِ . واقطَعْ لسانَهُما بدينارَينِ . ثمّ فرّقِ الأصْحابَ . وأغلِقِ البابَ . وأشِعْ أنهُ يومٌ مذْمومٌ . وأنّ القاضيَ فيهِ مهْمومٌ . لئلاّ يحْضُرَني خُصومٌ قال : فأمّنَ الحاجِبُ على دُعائِهِ . وتَباكى لبُكائِهِ . ثمّ نقَدَ أبا زيدٍ وعِرْسَهُ المِثقالَينِ . وقال : أشهَدُ أنّكُما لأحْيَلُ الثّقَلينِ . لكِنِ احْتَرِما مجالِسَ الحُكّامِ . واجتَنِبا فيها فُحشَ الكلامِ . فما كُلُّ قاضٍ قاضي تبريزَ . ولا كُلَّ وقتٍ تُسمَعُ الأراجيزُ . فقالا لهُ : مثلُك منْ حجَبَ . وشُكرُكَ قدْ وجَبَ . ونهَضا وقدْ حظِيا بدينارَينِ . وأصْلَيا قلْبَ القاضي نارَينِ .














مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید