المنشورات

المقامة التِّنِّيسيّة

حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال : أطَعْتُ دَواعيَ التّصابي . في غُلَواء شَبابي . فلمْ أزَلْ زِيراً للغِيدِ . وأُذُناً للأغارِيدِ . إلى أن وافَى النّذيرُ . وولّى العيشُ النّضيرُ . فقَرِمْتُ إلى رُشْدِ الانتِباهِ . وندِمْتُ على ما فرّطْتُ في جنْبِ اللهِ . ثمّ أخذْتُ في كسْعِ الهَناتِ بالحَسَناتِ . وتلافي الهفَواتِ قبلَ الفَواتِ . فمِلْتُ عنْ مُغاداةِ الغاداتِ . إلى مُلاقاةِ التُّقاةِ . وعنْ مُقاناةِ القَيْناتِ . إلى مُداناةِ أهلِ الدّياناتِ . وآلَيتُ أن لا أصْحَبَ إلا مَنْ نزَعَ عنِ الغَيّ . وفاءَ منشَرُهُ إلى الطّيّ . وإنْ ألْفَيْتُ منْ هوَ خَليعُ الرّسَنِ . مَديدُ الوسَنِ . أنْأيْتُ داري عن دارِهِ . وفرَرْتُ عنْ عَرّهِ وعارِهِ . فلمّا ألقَتني الغُربَةُ بتِنّيسَ . وأحَلّتني مسجِدَها الأنيسَ . رأيتُ بهِ ذا حَلقَةٍ مُلتَحمَةٍ . ونظّارَةٍ مُزدَحِمةٍ . وهوَ يقولُ بجأشٍ مَكينٍو ولِسنٍ مُبينٍ : مِسكينٌ ابنُ آدمَ وأيُّ مِسكينٍ . ركَنَ من الدّنيا إلى غيرِ رَكينٍ . واستَعصَمَ منها بغيرِ مَكسنٍ . وذُبِحَ من حُبّها بغيرِ سِكّينٍ . يَكْلَفُ بها لغَباوَتِهِ . ويَكْلَبُ عليْها لشَقاوَتِهِ . ويعْتَدّ فيها لمُفاخرَتِهِ . ولا يتزوّدُ منها لآخرتِهِ . أُقسمُ بمَنْ مرَجَ البَحرَينِ . ونوّرَ القمَرَينِ . ورفَعَ قدْرَ الحجريْنِ . لوْ عقَلَ ابنُ آدَمَ . لما نادَمَ . ولوْ فكّرَ في ما قدّمَ . لبَكى الدّمَ . ولوْ ذكَرَ المُكافاةَ . لاستَدرَكَ ما فاتَ . ولوْ نظَرَ في المآلِ . لحسّنَ قُبْل الأعْمالِ . يا عجَباً كلَّ العجَبِ . لمَنْ يقتَحِمُ ذاتَ اللّهَبِ . في اكْتِنازِ الذّهبِ . وخزْنِ النّشَبِ . لذوي النّسَبِ . ثمّ منَ البِدْعِ العَجيبِ . أن يعِظَكَ وخْطُ المشيبِ . وتؤذِنُ شمسُكَ بالمَغيبِ . ولستَ ترى أن تُنيبَ . وتهذّبَ المَعيبَ . ثمّ اندفَعَ يُنشِدُ . إنشادَ منْ يُرشِدُ :
يا ويْحَ مَنْ أنذرَهُ شَيبُهُ . . . وهوَ على غَيّ الصِّبا منكَمِشْ
يعْشو إلى نارِ الهَوى بعْدَما . . . أصبَحَ من ضُعْفِ القُوى يرتَعِش
ويمتَطي اللهْوَ ويعْتَدُّهُ . . . أوْطأ ما يفتَرِشُ المُفتَرِشْ
لم يهَبِ الشّيبَ الذي ما رأى . . . نجومَهُ ذو اللُّبّ إلا دُهِشْ
ولا انتهَى عمّا نَهاهُ النُهى . . . عنهُ ولا بالى بعِرْضٍ خُدِشْ فذاكَ إنْ ماتَ فسُحْقاً لهُ . . . وإن يعِشْ عُدّ كأنْ لمْ يعِشْ
لا خيْرَ في مَحْيا امرئٍ نشْرُهُ . . . كنَشْرِ ميْتٍ بعدَ عشْرٍ نُبِشْ
وحبّذا مَن عِرضُهُ طيّبٌ . . . يَروقُ حُسْناً مثلَ بُرْدٍ رُقِشْ
فقُلْ لمَن قد شاكَهُ ذنبُهُ . . . هلَكْتَ يا مِسكينُ أو تنتَقِشْ
فأخْلِصِ التّوبَةَ تطمِسْ بها . . . منَ الخَطايا السودِ ما قد نُقِشْ
وعاشِرِ الناسَ بخُلقٍ رِضًى . . . ودارِ منْ طاشَ ومنْ لم يطِشْ
ورِشْ جَناحَ الحُرّ إنْ حَصّهُ . . . زمانُهُ لا كانَ منْ لم يرِشْ
وأنجِدِ الموْتورَ ظُلماً فإنْ . . . عجِزْتَ عن إنْجادِهِ فاستجِشْ
وانعَشْ إذا ناداكَ ذو كَبوَةٍ . . . عساكَ في الحشْرِ بهِ تنتَعِشْ
وهاكَ كأسَ النُصْحِ فاشرَبْ وجُدْ . . . بفَضْلَةِ الكأسِ على مَنْ عطِشْ
قال : فلمّا فرَغَ من مُبكِياتِهِ . وقضَى إنشادَ أبياتِهِ . نهضَ صبيٌّ قد شدَنَ . وأعْرى البَدَنَ . وقال : يا ذَوي الحَصاةِ . والإنْصاتِ إلى الوَصاةِ . قد وعَيْتُمُ الإنشادَ . وفقِهتُمُ الإرْشادَ . فمَن نَوى منكُمْ أن يقْبَلَ . ويُصلِحَ المُستَقبَلَ . فلْيُبِنْ ببِرّي عنْ نِيّتِهِ . ولا يعدِلْ عني بعَطيّتِهِ . فوالذي يعلَمُ الأسرارَ . ويغفِرُ الإصْرارَ . إنّ سرّي لكَما تَرَوْنَ . وإنّ وجهي ليَستَوْجِبُ الصّوْنَ . فأعينوني رُزِقْتُمُ العوْنَ . قال : فأخذَ الشيخُ في ما يعطِفُ عليْهِ القُلوبَ . ويُسَنّي لهُ المطْلوبَ . حتى أنْبَطَ حَفرُهُ . واعْشَوشَبَ قَفْرُهُ . فلمّا أنْ ترِعَ الكيسُ . انصَلَتَ يميسُ . ويحمَدُ تِنّيسَ . ولمْ يحْلُ للشيخِ المُقامُ . بعْدَما انْصاعَ الغُلامُ . فاستَرْفَعَ الأيْدي بالدّعاء . ثمّ نَحا نحْوَ الانكِفاء . قال الراوي : فارتَحْتُ إلى أن أعجُمَهُ . وأحُلَّ مُترجَمَهُ . فتَبعتُهُ وهو يشتَدّ في سمْتِهِ . ولا يفْتُقُ رتْقَ صمتِهِ . فلمّا أمِنَ المُفاجيَ . وأمكَنَ التّناجي . لفَتَ جيدَهُ إليّ . وسلّمَ تسْليمَ البَشاشَةِ عليّ . ثمّ قال : أراقَكَ ذكاءُ ذاكَ الشُّوَيْدِنِ ؟ فقلتُ : إي والمؤمِنِ المُهَيمِنِ قال : إنهُ فتى السّروجيّ . ومُخرِجِ الدُّرّ منَ اللُّجّيّ فقلْتُ : أشهَدُ إنّكَ لَشَجرَةُ ثمرَتِهِ . وشُواظُ شرَرَتِهِ . فصدّقَ كَهانَتي . واستَحْسَنَ إبانَتي . ثمّ قال : هل لكَ في ابتِدارِ البيتِ . لنَتنازَعَ كأسَ الكُمَيتِ ؟ فقلتُ لهُ : ويْحَكَ أتأمُرونَ الناسَ بالبِرّ وتَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ ؟ فافتَرّ افتِرارَ مُتَضاحِكٍ . ومرّ غيرَ مُماحِكٍ . ثمّ بَدا لهُ أنْ تَراجَعَ إليّ . وقال : احفَظْها عني وعليّ :
إصْرِفْ بصِرْفِ الرّاحِ عنكَ الأسى . . . وروّحِ القلْبَ ولا تكتَئِبْ
وقلْ لمَنْ لامكَ في ما بِهِ . . . تدفعُ عنكَ الهمّ قدْكَ اتّئِبْ
ثمّ قال : أمَا أنا فسأنطَلِقُ . إلى حيثُ أصطَبِحُ وأغْتَبِقُ . وإذا كُنتَ لا تَصحَبُ . ولا تُلائِمُ مَن يطرَبُ . فلسْتَ لي برَفيقٍ . ولا طريقُكَ لي بطَريقٍ . فخَلّ سَبيلي ونكّبْ . ولا تُنقّرْ عني ولا تُنقّبْ . ثمّ ولّى مُدْبِراً ولمْ يُعَقّبْ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فالْتَهَبْتُ وجْداً عندَ انطِلاقِهِ . ووَدِدْتُ لوْ لمْ أُلاقِهِ .














مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید