المنشورات

المقامة الشّتَويّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : عشَوْتُ في ليلَةٍ داجِيَةِ الظُّلَمِ . فاحِمَةِ اللِّمَمِ . إلى نارٍ تُضْرَمُ على علَمٍ . وتُخبِرُ عن كرَمٍ . وكانتْ ليلَةً جوُّها مَقرورٌ . وجَيْبُها مَزْرورٌ . ونجمُها مغْمومٌ . وغيمُها مرْكومٌ . وأنا فيها أصْرَدُ منْ عينِ الحِرْباء . والعَنْزِ الجَرْباء . فلمْ أزلْ أنُصّ عنْسي . وأقولُ : طوبى لكِ ولَنفْسي إلى أن تبصّرَ المُوقِدُ آلي . وتبيّنَ إرْقالي . وتبيّنَ إرْقالي . فانحدَرَ يعْدو الجَمَزَى . ويُنشِدُ مُرتَجِزاً :
حُيّيتَ منْ خابِطِ ليْلٍ ساري . . . هَداهُ بلْ أهْداهُ ضوءُ النارِ
إلى رَحيبِ الباعِ رحْبِ الدّارِ . . . مرحِّبٍ بالطّارِقِ المُمْتارِ
تَرْحابَ جعْدِ الكفّ بالدّينارِ . . . ليسَ بمُزْوَرٍّ عنِ الزُوّارِ
ولا بمِعْتامِ القِرى مِئْخارِ . . . إذا اقشَعرّتْ تُرَبُ الأقْطارِ
وضَنّتِ الأنواءُ بالأمْطارِ . . . فهْوَ على بؤسِ الزّمانِ الضّاري
جمُّ الرّمادِ مرهَفُ الشِّفارِ . . . لمْ يخْلُ في ليلٍ ولا نَهارِ
من نحْرِ وارٍ واقتِداحِ وارِي ثمّ تلقّاني بمُحيّا حَييٍّ . وصافَحَني براحَةِ أريَحِيٍّ . واقْتادَني إلى بيتٍ عِشارُهُ تخورُ . وأعْشارُهُ تفورُ . وولائِدُهُ تمورُ . وموائِدُهُ تدورُ . وبأكْسارِهِ أضْيافٌ قدْ جلبَهُم جالِبي . وقُلّبوا في قالَبي . وهُمْ يجتَنونَ فاكِهةَ الشّتاء . ويمرَحونَ مرَحَ ذَوي الفَتاء . فأخذْتُ مأخذَهُمْ في الاصطِلاء . ووجدْتُ بهِمْ وجْدَ الثّمِلِ بالطِّلاء . ولمّا أنْ سَرى الحصَرُ .
وانْسَرى الخَصَرُ . أُتينا بمَوائِدَ كالهالاتِ دَوْراً . والرّوْضاتِ نَوْراً . وقد شُحنّ بأطْعِمَةِ الوَلائمِ . وحُمينَ منَ العائِبِ واللائِمِ . فرفَضْنا ما قيلَ في البِطنَةِ . ورأيْنا الإمْعانَ فيها منَ الفِطنَةِ . حتى إذا اكتَلْنا بصاعِ الحُطَمِ . وأشْفَيْنا على خطَرِ التُخَمِ . تعاوَرْنا مَشوشَ الغمَرِ . ثمّ تبوّأنا مقاعِدَ السّمَرِ . وأخذَ كُلُّ واحِدٍ منا يَشولُ بلِسانِهِ . وينشُرُ ما في صِوانِهِ . ما عَدا شيخاً مُشتَهِباً فَوْداهُ . مُخلَوْلِقاً بُرْداهُ . فإنّهُ ربَضَ حَجرَةً . وأوسَعَنا هِجرَةً . فغاظَنا تجنّبُهُ . المُلتَبِسُ موجِبُهُ . المعْذورُ فيهِ مؤنّبُهُ . إلا أنّا ألَنّا لهُ القوْلَ . وخشِينا في المسألَةِ العوْلَ . وكلّما رُمْنا أنْ يَفيضَ كما فِضْنا . أو يُفيضَ في ما أفَضْنا . أعْرَضَ إعْراضَ العِلّيّةِ عنِ الأرْذَلينَ . وتَلا : إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوّلينَ . ثمّ كأنّ الحَميّةَ هاجَتْهُ . والنّفْسَ الأبيّةَ ناجَتْهُ . فدلَفَ وازْدَلَفَ . وخلعَ الصّلَفَ . وبذلَ أنْ يتَلافى ما سلَفَ . ثمّ استرْعى سمْعَ السّامِرِ . واندفَعَ كالسّيلِ الهامِرِ . وقال :
عِندي أعاجيبُ أرْويها بلا كذِبِ . . . عنِ العِيانِ فكَنّوني أبا العجَبِ
رأيتُ يا قوْمِ أقْواماً غذاؤهُمُ . . . بَوْلُ العجوزِ وما أعني ابنَةَ العِنَبِ
ومُسنِتِينَ منَ الأعْرابِ قوتُهُمُ . . . أن يشتووا خِرقةً تُغني من السّغَبِ
وقادِرينَ متى ما ساء صُنعُهُمُ . . . أو قصّروا فيه قالوا الذّنْبُ للحطَبِ
وكاتِبينَ وما خطّتْ أنامِلُهُمْ . . . حرْفاً ولا قرَأوا ما خُطّ في الكُتُبِ
وتابِعينَ عُقاباً في مسيرِهِمِ . . . على تكمّيهِمِ في البيْضِ واليَلَبِ
ومُنتَدينَ ذَوي نُبْلٍ بدَتْ لهُمُ . . . نبيلَةٌ فانْثَنوْا منها إلى الهرَبِ
وعُصبَةً لمْ ترَ البيْتَ العَتيقَ وقدْ . . . حجّتْ جُثِيّاً بلا شكٍّ على الرُّكَبِ
ونِسوَةً بعدَما أدْلجنَ من حلَبٍ . . . صبّحنَ كاظِمَةً من غيرِ ما تعَبِ
ومُدلِجينَ سرَوْا من أرضِ كاظِمَةٍ . . . فأصبَحوا حينَ لاحَ الصُبحُ في حلَبِ
ويافِعاً لم يُلامِسْ قطُّ غانِيَةً . . . شاهَدتُهُ ولهُ نسلٌ منَ العَقِبِ
وشائِباً غيرَ مُخْفٍ للمَشيبِ بَدا . . . في البَدْوِ وهْوَ فتيُّ السِّنّ لم يشِبِ
ومُرضَعاً بلِبانٍ لمْ يفُهْ فمُهُ . . . رأيتُهُ في شِجارٍ بيّنِ السّبَبِ
وزارِعاً ذُرَةً حتى إذا حُصِدَتْ . . . صارتْ غُبَيراء يهواها أخو الطّرَب
ِ
وراكِباً وهْوَ مغلولٌ على فرَسٍ . . . قد غُلّ أيضاً وما ينفكّ عن خبَبِ
وذا يدٍ طُلُقٍ يقْتادُ راحِلَةً . . . مُستَعجِلاً وهْوَ مأسورٌ أخو كُرَبِ
وجالِساً ماشياً تهْوي مطيّتُهُ . . . بهِ وما في الذي أوْرَدتُ من رِيَبِ
وحائكاً أجْذَمَ الكفّينِ ذا خرَسٍ . . . فإن عجبتمْ فكمْ في الخَلقِ من عجَبِ
وذا شَطاطٍ كصدرِ الرّمحِ قامَتُهُ . . . صادَفتُهُ بمِنًى يشكو منَ الحدَبِ
وساعياً في مسَرّاتِ الأنامِ يرى . . . إفْراحَهُمْ مأثماً كالظُّلمِ والكذِبِ
ومُغْرَماً بمُناجاةِ الرّجالِ لهُ . . . وما له في حديثِ الخلقِ من أرَبِ
وذا ذِمامٍ وفَتْ بالعَهْدِ ذمّتُهُ . . . ولا ذِمامَ لهُ في مذهَبِ العرَبِ وذا قُوًى ما اسْتبانَتْ قطّ لِينَتُهُ . . . ولِينُهُ مُستَبينٌ غيرُ مُحتجِبِ
وساجداً فوقَ فحْلٍ غيرَ مكترِثٍ . . . بِماأتى بلْ يراهُ أفضلَ القُرَبِ
وعاذِراً مؤلِماً مَنْ ظلّ يعذِرُهُ . . . معَ التّلطّفِ والمعذورُ في صخَب
ِ
وبلْدَةً ما بها ماءٌ لمُغتَرِفٍ . . . والماءُ يجري عليْها جرْيَ مُنسرِبِ
وقريةً دونَ أُفحوصِ القطا شُحنتْ . . . بديلمٍ عشيهُمْ من خُلسَةِ السّلَبِ
وكوْكَباً يتَوارى عندَ رؤيتهِ ال . . . إنسانُ حتى يُرَى في أمنَعِ الحُجُبِ
وروْثَةً قوّمَتْ مالاً لهُ خطَرٌ . . . ونفْسُ صاحِبِها بالمالِ لم تطِبِ
وصحفَةً من نُضارٍ خالصٍ شُريتْ . . . بعدَ المِكاسِ بقيراطٍ من الذّهبِ
ومُستَجيشاً بخشْخاشٍ ليدفعَ ما . . . أظَلّهُ منْ أعاديهِ فلمْ يخِبِ
وطالَما مرّ بي كلبٌ وفي فمهِ . . . ثورٌ ولكنّهُ ثورٌ بلا ذنَبِ
وكمْ رأى ناظِير فيلاً على جمَلٍ . . . وقد تورّكَ فوقَ الرّحْلِ والقتَبِ
وكم لَقيتُ بعرْضِ البيدِ مُشتكياً . . . وما اشتكى قطّ في جِدٍّ وفي لعِبِ
وكنتُ أبصرْتُ كرّازاً لراعِيَةٍ . . . بالدّوّ ينظُرُ من عينَينِ كالشُهُبِ
وكم رأتْ مُقلَتي عينَينِ ماؤهُما . . . يجري من الغَرْبِ والعَينانِ في حلَبِ
وصادِعاً بالقَنا من غيرِ أن علِقَتْ . . . كفّاهُ يوماً برُمْحٍ لا ولمْ يثِبِ
وكم نزلْتُ بأرضٍ لا نَخيلَ بها . . . وبعدَ يوم رأيتُ البُسرَ في القُلُبِ
وكم رأيتُ بأقْطارِ الفَلا طبَقاً . . . يطيرُ في الجوّ منصَبّاً إلى صبَبِ
وكم مشايخَ في الدُنْيا رأيتُهُمُ . . . مخَلَّدينَ ومَنْ ينْجو من العطَبِ
وكم بدا لي وحْشٌ يشتكي سغَباً . . . بمنطِقٍ ذلِقٍ أمضى منَ القُضُبِ
وكم دَعانيَ مُستَنْجٍ فحادثَني . . . وما أخَلّ ولا أخْلَلْتُ بالأدَبِ
وكم أنختُ قَلوصي تحت جُنبُذَةٍ . . . تُظلّ ما شئتَ من عُجمٍ ومن عُرُبِ
وكم نظرْتُ إلى منع سُرّ ساعَتَهُ . . . ودمعُهُ مستَهِلُّ القطرِ كالسُّحُبِ
وكم رأيتُ قَميصاً ضرّ صاحِبَهُ . . . حتى انثنَى واهيَ الأعضاء والعصَبِ
وكمْ إزارٍ لوَ انّ الدهرَ أتلَفَهُ . . . لجفّ لِبْدُ حَثيثِ السيرِ مُضطرِبِ
هذا وكمْ منْ أفانينٍ معجِّبَةٍ . . . عندي ومن مُلَحٍ تُلهي ومن نُخَبِ
فإنْ فطِنتمْ للَحنِ القوْلِ بان لكُمْ . . . صِدْقي ودلّكُمُ طلْعي على رُطَبي
وإنْ شُدِهتُمْ فإنّ العارَ فيهِ على . . . منْ لا يُمَيّزُ بينَ العودِ والخشَبِ قال الحارثُ بنُ همّام : فطفِقْنا نخبِطُ في تقْليبِ قَريضِهِ . وتأويلِ مَعاريضِهِ . وهوَ يلهو بِنا لهْوَ الخليّ بالشّجيّ . ويقول : ليسَ بعُشّكِ فادْرُجي . إلى أن تعسّرَ النّتاجُ . واستحْكَمَ الارْتجاجُ . فألْقَينا إليْهِ المَقادَةَ . وخطَبْنا منهُ الإفادَةَ . فوقَفْنا بينَ المَطمَعِ والياسِ . وقال : الإيناسف قبلَ الإبْساسِ فعلِمنا أنهُ ممّنْ يرغَبُ في الشُّكْمِ . ويرْتَشي في الحُكْمِ . وساء أبا مثْوانا أنْ نعرَّضَ للغُرْمِ . أو نُخَيَّبَ بالرُّغْمِ . فأحْضَرَ صاحِبُ المنزِلِ ناقةً عِيديّةً . وحُلّةً سَعيديّةً . وقال له : خُذْهُما حَلالاً . ولا ترْزأ أضْيافي زِبالاً . فقال : أشهَدُ أنها شِنشِنَةٌ أخزَميّةٌ . وأريَحيّةٌ حاتِميّةٌ . ثم قابلَنا بوجهٍ بِشرُهُ يشِفّ . ونَضْرَتُهُ ترِفّ . وقال : يا قوْمِ إنّ الليْلَ قدِ اجْلَوّذَ . والنّعاسَ قدِ استحْوَذَ . فافْزَعوا الى المَراقِدِ . واغتَنِموا راحَةَ الرّاقِدِ . لتَشرَبوا نَشاطاً . وتُبعَثوا نِشاطاً . فتَعوا ما أفَسّرُ . ويتسهّلَ لكُمُ المتعسِّرُ . فاسْتَصوَبَ كلٌ ما رآهُ . وتوسّد وِسادَةَ كَراهُ . فلمّا وسَنَتِ الأجْفانُ . وأغْفَتِ الضِّيفانُ . وثبَ إلى النّاقَةِ فرحَلَها . ثمّ ارتَحَلَها ورحّلَها . وقال مُخاطِباً لها :
سَروجَ يا ناقَ فَسيري وخِدِي . . . وأدْلِجي وأوّبي وأسْئِدي
حتى تَطا خُفّاكِ مرْعاها النّدي . . . فتَنعَمي حينَئذٍ وتَسعَدي
وتأمَني أنْ تُتْهِمي وتُنْجِدي . . . إيهِ فدَتكِ النّوقُ جِدّي واجهَدي
وافْرِي أديمَ فدْفَدٍ ففَدْفَدِ . . . واقْتَنِعِي بالنّشْحِ عندَ الموْرِدِ
ولا تَحُطّي دونَ ذاكَ المَقصِدِ . . . فقدْ حلَفْتُ حَلفَةَ المُجتَهِدِ
بحُرمَةِ البيتِ الرّفيعِ العُمُدِ . . . إنّكِ إنْ أحلَلْتِني في بلَدي
حللْتِ منّي بمحَلّ الولَدِ
قل : فعلِمْتُ أنهُ السّروجيُّ الذي إذا باعَ انْباعَ . وإذا ملأ الصّاعَ انْصاعَ . ولمّا انبلَجَ صَباحُ اليومِ . وهبّ النّوّامُ منَ النّومِ . أعلَمتُهُمْ أن الشيخَ حينَ أغْشاهُمُ السُباتَ . طلّقَهُمُ البَتاتَ . وركِبَ النّاقَةَ وفاتَ . فأخذَهُم ما قَدُمَ وما حَدُثَ . ونَسوا ما طابَ منهُ بِما خبُثَ . ثمّ انشَعَبْنا في كلّ مشْعَبٍ . وذهبْنا تحْتَ كُلّ كوكَبٍ .








مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید