المنشورات

المقامة الرّمليّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : كنتُ أخذْتُ عنْ أولي التّجارِيبِ . أنّ السّفَرَ مِرآةُ الأعاجيبِ . فلمْ أزَلْ أجوبُ كلّ تَنوفَةٍ . وأقتَحِمُ كُلّ مَخوفَةٍ . حتى اجتَلَبْتُ كلّ أُطروفَةٍ . فمِنْ أحسَنِ ما لمحْتُهُ . وأغْرَبِ ما استَمْلَحْتُهُ . أنْ حضَرْتُ قاضيَ الرّملَةِ . وكانَ منْ أربابِ الدّولَةِ والصّولَةِ . وقد تَرافَعَ إليْهِ بالٍ في بالٍ . وذاتُ جَمالٍ في أسْمالٍ . فهمّ الشيخُ بالكلامِ . وتِبْيانِ المَرامِ . فمنعَتْهُ الفَتاةُ منَ الإفْصاحِ . وخسأتْهُ عنِ النُباحِ . ثمّ نضَتْ عنها فَضْلَةَ الوِشاحِ . وأنشدَتْ بلِسانِ السّليطَةِ الوَقاحِ :
يا قاضيَ الرّملَةِ يا ذا الذي . . . في يدِهِ التّمرَةُ والجَمْرَهْ
إليْكَ أشْكو جوْرَ بعْلي الذي . . . لمْ يحجُجِ البيتَ سوى مرّهْ
ولَيْتَهُ لمّا قضى نُسكَهُ . . . وخفّ ظَهراً إذْ رمى الجَمرَهْ
كانَ على رأيِ أبي يوسُفٍ . . . في صِلَةِ الحِجّةِ بالعُمْرَهْ
هذا على أنّيَ مُذْ ضمّني . . . إليْهِ لمْ أعْصِ لهُ أمْرَهْ
فمُرْهُ إمّا أُلفَةً حُلوَةً . . . تُرْضي وإمّا فُرقَةً مُرّهْ
منْ قبلِ أنْ أخلَعَ ثوْبَ الحَيا . . . في طاعَةِ الشيخِ أبي مرّهْ
فقال لهُ القاضي : قد سمِعتَ بما عزَتْكَ إليْهِ . وتوعّدَتْكَ عليْهِ . فجانِبْ ما عرّكَ . وحاذِرْ أنْ تُفرَكَ . وتُعْرَكَ . فجَثا الشيخُ على ثفِناتِهِ . وفجَرَ ينْبوعَ نفثَاتِهِ . وقال :
إسمَعْ عداكَ الذّمُّ قولَ امرئٍ . . . يوضِحُ في ما رابَها عُذرَهْ
واللهِ ما أعْرَضْتُ عنها قِلًى . . . ولا هَوَى قلبي قضى نذرَهْ وإنّما الدهْرُ عَدا صرْفُهُ . . . فابْتَزّنا الدُّرّةَ والذّرّهْ
فمنزِلي قفرٌ كما جِيدُها . . . عُطْلٌ منَ الجَزْعَةِ والشّذْرَهْ
وكنتُ منْ قبْلُ أرى في الهَوى . . . ودينِهِ رأيَ بني عُذرَهْ
فمُذْ نَبا الدهرُ هجَرْتُ الدُّمى . . . هِجرانَ عفٍّ آخِذٍ حِذْرَهْ
ومِلتُ عنْ حَرْثيَ لا رغبَةً . . . عنهُ ولكِنْ أتّقي بَذْرَهْ
فلا تلُمْ مَنْ هذِهِ حالُهُ . . . واعطِفْ عليْهِ واحتَمِلْ هَذرَهْ
قال : فالتَظَتِ المرأةُ منْ مَقالِهِ . وانتضَتِ الحُجَجَ لجِدالِهِ . وقالتْ لهُ : ويلَكَ يا مَرْقَعانُ . يا مَنْ هُو لا طَعامٌ ولا طِعانٌ أتَضيقُ بالولَدِ ذرْعاً . ولكُلّ أكولَةٍ مرْعًى ؟ لقدْ ضلّ فهْمُكَ . وأخطأ سهمُكَ . وسفِهَتْ نفسُكَ . وشقِيَتْ بِكِ عِرسُكَ . فقال لها القاضي : أمّا أنتِ فلوْ جادَلتِ الخنْساء . لانثَنَتْ عنكِ خرْساء . وأما هوَ فإنْ كانَ صدَقَ في زعمِهِ . ودعْوى عُدْمِهِ . فلهُ في همّ قَبْقَبِهِ . ما يشغلُهُ عنْ ذبْذَبِهِ . فأطرَقَتْ تنظُرُ ازوِراراً . ولا تُرجِعُ حِواراً . حتى قُلْنا : قد راجعَها الخفَرُ . أو حاقَ بها الظّفَرُ . فقالَ لها الشيخُ : تعْساً لكِ إنْ زخْرفْتِ . أو كتَمْتِ ما عرَفْتِ فقالت : ويْحَكَ وهلْ بعْدَ المُنافَرَةِ كتْمٌ . أو بقيَ لنا على سِرٍّ ختْمٌ ؟ وما فينا إلا مَنْ صدَقَ . وهتَكَ صوْنَهُ إذ نطَقَ . فلَيتَنا لاقَيْنا البَكَمَ . ولمْ نلْقَ الحكَمَ . ثمّ التفَعَتْ بوِشاحِها . وتباكَتْ لافْتِضاحِها . وجعلَ القاضي يَعجَبُ منْ خطبِهِما ويُعجِّبُ . ويلومُ لهُما الدّهْرَ ويؤنِّبُ . ثمّ أحْضَرَ من الورِقِ ألْفَينِ . وقال : أرْضِيا بهِما الأجْوَفَينِ . وعاصِيا النّازغَ بينَ الإلْفينِ . فشَكَراهُ على حُسنِ السَّراحِ . وانطَلَقا وهُما كالماء والرّاحِ . وطفِقَ القاضي بعْدَ مسرَحِهِما . وتَنائي شبَحِهِما . يُثْني على أدَبِهِما . ويقول : هل منْ عارِفٍ بهِما ؟ فقال لهُ عينُ أعْوانِهِ . وخالِصَةُ خُلْصانِهِ : أما الشيخُ فالسّروجيّ المشهودُ بفضلِهِ . وأما المرأةُ فقَعيدَةُ رحْلِه . وأمّا تحكُمُهما فمَكيدةٌ من فِعلِهِ . وأُحبولَةٌ من حبائِلِ ختْلِه فأحْفَظَ القاضيَ ما سمِعَ . وتلهّبَ كيفَ خُدِعَ . ثمّ قال للواشي بهِما : قُمْ فرُدْهُما . ثم اقصِدْهُما وصِدْهُما . فنهضَ ينفُضُ مِذروَيْهِ . ثمّ عادَ يضرِبُ أصْدَرَيْهِ فقال لهُ القاضي : أظهِرْنا على ما نبَثْتَ . ولا تُخْفِ عنّا ما استَخْبَثْتَ . فقال : ما زِلْتُ أستَقْري الطُّرُقَ . وأستَفتِحُ الغُلُقَ . إلى أن أدرَكْتُهُما مُصْحِرَينِ . وقد زمّا مطيَّ البيْنِ . فرغّبتُهُما في العَلَلِ . وكفَلْتُ لهُما بنَيلِ الأمَلِ . فأُشْرِبَ قلبُ الشّيخِ أن ييْأسَ . وقال : الفِرارُ بقُرابٍ أكيَسُ وقالتْ هيَ : بلِ العوْدُ أحمَدُ . والفَروقَةُ يَكْمَدُ . فلمّا تبيّن الشيخُ سفَهَ رائِها . وغَرَرَ اجتِرائِها . أمسكَ ذَلاذِلَها . ثمّ أنشأ يقول لها :
دونَكَ نُصْحي فاقتَفي سُبْلَهْ . . . واغني عنِ التّفصيلِ بالجُملَهْ
طيري متى نقّرْتِ عن نخلَةٍ . . . وطلّقِيها بتّةً بتْلَه
ْ
وحاذِري العوْدَ إليْها ولوْ . . . سبّلَها ناطورُها الأبْلَهْ
فخيرُ ما للّصّ أنْ لا يُرى . . . ببُقْعةٍ فيها لهُ عَمْلَهْ
ثمّ قال لي : لقدْ عُنّيتَ . في ما وُلّيتَ . فارجِعْ منْ حيثُ جِئْتَ . وقلْ لمُرسِلِكَ إن شِئْتَ :
رُوَيدَكَ لا تُعقِبْ جَميلَكَ بالأذى . . . فتُضْحي وشملُ المال والحمد مُنصَدعْ
ولا تتغضّبْ منْ تزَيُّدِ سائِلٍ . . . فما هوَ في صوْغِ اللّسانِ بمُبتدِعْ
وإنْ تكُ قد ساءتكَ مني خَديعَةٌ . . . فقبلكَ شيخُ الأشعرِيّينَ قد خُدِعْ فقالَ لهُ القاضي : قاتَلَهُ اللهُ فما أحسَنَ شُجونَهُ . وأملَحَ فنونَهُ ثمّ إنّهُ أصْحَبَ رائِدَهُ بفرْدَينِ . وصُرّةً منَ العينِ . وقالَ لهُ : سِرْ سَيرَ منْ لا يرَى الالتِفاتَ . إلى أن تَرى الشيْخَ والفَتاةَ . فبُلّ يدَيْهِما بهَذا الحِباء . وبيّن لهُما انخِداعي للأدَباء . قال الرّاوي : فلمْ أرَ في الاغتِرابِ . كهَذا العُجابِ . ولا سمِعْتُ بمِثلِه ممّنْ جالَ وجابَ .










مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید