المنشورات

مجنون دير هرقل

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، بباب الندوة، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن الصديق بنسف قال: حدثنا أبو يعلى محمد بن مالك الرقي قال: حدثنا عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك. فدخلنا فإذا بشاب حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحباً بالوفد، قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما. قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك.
فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتكما.
قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟ فقال:
اللهُ يعلمُ أنّني كَمِدُ، ... لا أستطيعُ أبثُّ ما أجِد.
نَفسانِ لي: نفسٌ تضَمّنَها ... بَلَدٌ، وأُخرَى حازَها بَلَدُ.
أمّا المُقيمةُ ليس ينفعُها ... صَبرٌ، وليس بقربها جلَدُ.
وأظنّ غائبَتي كشاهِدَتي، ... بِمكانِها تجِدُ الذي أجِدُ.
ثم التفت إلينا فقال: أحسنت؟ قلنا: نعم!، ثم ولينا فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هات! فقال:
لمّا أناخوا، قُبَيْل الصُّبْحِ، عيسَهُمُ، ... وَرَحّلوها، فسارت بالهوى الإبلُ.
وَقَلّبتْ، من خِلالِ السِّجفِ، ناظرَها، ... ترْنو إليّ وَدَمعُ العينِ مُنْهمِلُ.
فَوَدّعَتْ بِبَنان عَقدُها عَنَمٌ، ... نادَيتُ لا حَمَلَتْ رِجلاكَ يا جَمَلُ.
ويلي مِن البَينِ! ماذا حلّ بي وبِها؟ ... يا نازِحَ الدّارِ حلّ البينُ وارْتحلوا.
يا رَاحِلَ العِيسِ عَرّجْ كيْ أُوَدّعَها، ... يا رَاحلَ العِيس في تَرْحالكَ الأجَلُ.
إنّي على العَهدِ لم أنقض موَدَتكم، ... فليتَ شعري، وطالَ العهدُ، ما فعلوا؟
فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مجوناً منا: ماتوا! فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟ فقلنا، لننظر ما يصنع: نعم! ماتوا. قال: إني والله ميت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبةً دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات. فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا.











مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید