المنشورات

عاشق يموت كتماناً

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن العلاف الواعظ، رحمه الله، بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين قال: حدثنا جعفر بن محمد الصوفي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا زكريا بن إسحاق قال: سمعت مالك بن سعيد يقول: حدثني مشيخة من خزاعة أنه كان عندهم بالطائف جارية متعبدة ذات يسار وورع، وكانت لها أم أشد عبادةً منها، وكانت مشهورة بالعبادة، وكانتا قليلتي المخالطة للناس، وكانت لهما بضاعة مع رجل من أهل الطائف، فكان يبضعها لهما، فما رزقهن الله من شيء أتاهن به.
قال: وبعث يوماً ابنه، وكان فتىً جميلاً مسرفاً على نفسه، إليهن ببعض حوائجهن، فقرع الباب، فقالت أمها: من هذا؟ قال: أنا ابن فلان. قالت: ادخل! فدخل وابنتها في بيتٍ، ولم تعلم بدخول الفتى، فلما قعد معها خرجت ابنتها، وهي تظن أنها بعض نسائهن حتى جلست بين يديه، فلما نظرت إليه قامت مبادرةً فخرجت، ونظر إليها فإذا هي من أجمل العرب.
قال: ووقع حبها في قلبه. فخرج من عندها، وما يدري أين يسلك، فأتى أباه، فأخبره برسالتهن، وجعل الفتى ينحل ويذوب جسمه، وتغير عما كان عليه، ولزم الوحدة والفكر، وجعل الناس يظنون أن الذي به من عبادة قد لزمها، حتى سقط على فراشه.
فلما رآه أبوه على تلك الحال دعا له الأطباء والمعالجين، فجعلوا ينظرون إليه، فكل يصف به دواء، ويقول: به داء لا يقوله صاحبه، والفتى مع ذلك ساكت لا يتكلم، حتى إذا طالت علته واشتد عليه الأمر دعا أبوه فتياناً من الحي، وإخوانه الذين كانوا له أنساً، فقال لهم: اخلوا به وسلوه عن علته لعله يخبركم ببعض ما يجده، فأتوه فكلموه وسألوه، فقال: والله ما بي علة أعرفها فأبينها لكم، وأخبركم بما أجد منها، فأقلوا الكلام.
وكان الفتى فطناً ذا عقل، فلما طال به الوجد دعا امرأة من بعض أهله فخلا بها، وقال: إني ملق إليك حديثاً ما ألقيته إليك إلا عند الإياس من نفسي، فإن ضمنت لي كتمانه أخبرتك وإلا صبرت حتى يحكم الله في أمري ما يحب، وبعد، فوالله ما أخبرت به أحداً قبلك، ولئن كتمت علي لا أخبر به أحداً بعدك، وإن هذا البلاء الذي أرى بي لا شك قاتلي وإنه يجب علي في محبتي له أن أكون لمن أحب صائناً وعليه مشفقاً من تزيد الناس وإكثارهم حتى يصير الصغير كبيراً، والكبير عندهم الباقي ذكره أبداً، الله الله في أمري، واجعليه محرزاً في صدرك فإن فعلت فلك حسن المكافأة، وإن أبيت فالله يحسن لك الشكر.
فقالت له المرأة: قل يا بني ما بدا لك، فوالله ما أجد في الدنيا أحداً أحب بقاءه غيرك، وكيف لي أن يكون عندي بعض دوائك، فوالله لأكتمن أمرك ما بقيت أيام الدنيا. فقال لها: إن من قصتي كذا وكذا! فقالت له: يا بني أفلا أخبرتنا، فوالله ما رأيت كلمةً أسكن بمجامع القلب فلا تفارقه أبداً، من كلمة: محب عاشق أخبر من يحبه أنه له وامق، فتلك الكلمة تزرع في قلوب ذوي الألباب شجراً لا تدرك أصوله. فقال لها: ومن لي بها، وكيف السبيل إليها وقد بلغك حالها وقصتها وشدة اجتهادها وعبادتها؟ قالت له: يا بني علي أن آتيك بما تسر به.
قال: فلبست ثوبها وأتت منزل الجارية، فدخلت فسلمت على أمها وحادثتها ساعةً. فسألتها أمها عن حاله وعن وجعه، فقالت: والله لقد رأيت الأوجاع والآلام، فما رأيت وجعاً قط كوجعه، وإن وجعه يزيد في كل يوم، وألمه يترقى، وهو في ذلك صابر غير شاك لا يفقد من جوارحه شيئاً، ولا من عقله. فقالت أمها: أفلا تدعون له الأطباء؟ قالت: بلى، والله فما وقع أحد منهم على دائه، ولا يفقه دواءه.
ثم قامت فدخلت على الجارية في بيتها الذي كانت تتعبد فيه، فسلمت عليها، وحادثتها ساعةً، وقد كان وقع إلى الجارية خبره، فعلمت أن ذلك من أجلها، فقالت لها المرأة: يا بنية أبليت شبابك وأفنيت أيامك على هذه الحال التي أنت عليها. قالت: يا عمتاه أية حال سوء تريني عليها قالت لا يا بنية ولكن مثلك يفرح في الدنيا ويلذ فيها ببعض ما أحل الله عز وجل لك، غير تاركة لطاعة ربك ولا مفارقة لخدمته، فيجمع الله لك بذلك الدارين جميعاً، فوالله ما حرم الله، عز وجل، على عباده ما أحل لهم.
فقالت: يا عمتاه، أو هذه الدار دار بقاء لا انقطاع لها ولا فناء فتكون الجوارح قد وثقت بذلك، فتجعل لله تعالى منظر هممها، وللدنيا شطرها، فتعد الجوارح إذاً التعب راحةً والكد سلامةً، أم هذه الدار دار فناءً وتلك دار بقاءٍ ومكافأة، والعمل على حسب ذلك.
قالت: يا بنية لا! ولكن الدنيا دار فناء وانقطاع وليست بباقية على أحد، ولا دائمة له، ولكن قد جعل الله تعالى لعباده فيها ساعات صدقة منه على النفوس، تنال فيها ما أحل لها من مخافة الشدة عليها.
فقالت الجارية: صدقت يا عمتاه، ولكن لله عباد قد علموا وصح في هممهم شيء من ذخر ذخروه عنده، فجعلوا هذا الشكر الذي جعله ذخيرة عنده، إذ لم تكن الدنيا كاملة لهم، ولا هم متنقصون شيئاً قدموه لأنفسهم، وسكنت نفوسهم ورضيت منهم بالصبر على الطاعة لتنال جملة الكرامة، وإن كلامك ليدلني على أن تحته علةً، وهو الذي حملك على مناظرتك لي على مثل هذا، وقد كنت أظن قبل اليوم فيك أنك تأمرين بالحرص على طاعة الله، عز وجل، والخدمة له، والتقرب إليه بالأعمال الزكية التي تبلغ رضاه وترفع عنده فقد أصبحت متغيرة عن ذلك العهد الذي كنت أعهدك عليه، فأخبريني بما عندك وأوضحي لي ما في نفسك، فإن يكن لك جواب أعتبتك، وإن يكن فيه حظ تابعتك، وإن يكن أمراً بعيداً من الله تعالى وعظتك.
قالت: يا بنية فأنا مخبرتك به، والذي منعني من إلقائه إليك هيبتك، إذ بسطتني وعلمت أن عندي خيراً وأمرتني بإلقائه، فإن من قصة فلان كذا وكذا.
قالت: قد ظننت ذلك فأبلغيه مني السلام، وقولي: أي أخاه! إني والله قد وهبت نفسي لمليك يكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويعين من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع بعد الهبة سبيل، فتوسل إلى مولاك ومولاي بمحابه، واضرع إليه في غفران ما قدمت يداك من عمل لم يهبه فيه، ولم يرضه، فهو أول ما يجب عليك أن تسأله، وأول ما يجب علي أن أعظك به، فإذا خدمته بقدر ما عصيته طاب لك الفراغ من سؤال شهوات القلوب وخطرات الصدور، فإنه لا يحسن بعبد كان لمولاه عاصياً وعن أمره مولياً ناسياً لأن ينسي ذنوبه والاعتذار منها، ويلزم نفسه مسألة الحوائج لعلها داعية له إلى الفتنة إن لم يتداركه الله تعالى بكرمه، فاستنفذ نفسك يا أخي من مهلكات الذنوب، فإن له فضلاً وسع كل شيء، ولست مؤيستك من فضله إن رآك متبتلاً إليه ومما قدمت يداك معتذراً أن يمن بي عليك، فإنه الملك الذي يجود على من ولى عنه بكرمه، فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من ولى عنه، يكون لمن أطاعه مكرماً وإليه وقت الندامة مسرعاً، وما أبقيت لك حجة تحتج بها، فليكن ما أخبرتك به نصب عينك ولا ترادني في المسألة، فلا أجيبك والسلام.
قال: فقامت المرأة من عندها، فأتته، فأخبرته بمقالتها. قال: فبكى بكاءً شديداً، فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت امرأة خوف الله، عز وجل، في صدرها، مثل هذه المرأة فاعمل بما أمرتك به، فقد، والله، بالغت في النصيحة، وأحسنت الموعظة، فلا تلق نفسك في مهلكات الأمور، فتندم حيث لا تغني الندامة، ولو علمت يا بني أن حيلة تنفذ غير الذي دعتك إليه لاحتلتها، ولكان عندي من ذلك ما أرجو أن محتالةً، ولكني رأيت الله، عز وجل، قد جعلته نصب عينيها، فهي إليه ناظرة ومن جعل الله عز وجل نصب عينيه لها عن زينة الحياة الدنيا، ورفعتها، واشتغل بما قد جعله نصب عينيه.
وجعل يبكي ويقول: كيف لي بالبلوغ إلى ما دعت إليه ومتى يكون آخر المدة التي نلتقي فيها؟ قال: فاشتد وجعه ذلك، وحال عن ذوي العقول، فلما نظر القوم إليه في تلك الحال، وجعل لا يقره قرار، حبسوه في بيت، وأوثقوه، وتوهم القوم أن الذي به من عشق، فكان ربما أفلت، فيخرج من منزله فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له: مت عشقاً، مت عشقاً! فكان يقول:
أَأُفشي إلَيكم بعضَ ما قد يَهيجُني ... أم الصبرُ أوْلى بالفتى عند ما يَلقَى.
أَأُوعَدُ وعداً ما لَه، الدهرَ، آخِرٌ ... وَأُومَرُ بالتّقوَى، ومَن ليَ بالتّقوَى.
سلامٌ على مَن لا أُسَمّيهِ باسمِه ... وَلوْ صرْتُ مثلَ الطيرِ في قفصٍ يُلقى.
ألا أيّها الصّبيَانُ لو ذُقتمُ الهوَى ... لأيْقَنتُمُ أنّي مُحَدّثُكم حَقّاً.
أحِبّكم مِن حُبّها، وأراكُمُ ... تقولون لي: مُتْ يا شجاعُ بها عِشقا.
فلَم تُنصِفوني، لا، ولا هيَ أنصَفَتْ ... فرِفقاً رُوَيداً، وَيحَكم بالفتى رِفْقَاً.
فلما صح ذلك عند أهله وعلموا أنه عاشق جعلوا يسألونه عن أمره، فكان لا يجيبهم، وكتمت العجوز قصته، فأخذوه فحبسوه في بيت فلم يزل فيه حتى مات، رحمه الله.










مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید