المنشورات

يخصي المغني

أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت الحافظ قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بها قال: حدثنا سليمان الطبراني قال: حدثنا محمد بن جعفر بن أعين قال: حدثنا علي بن حرب المؤملي عن عامر بن الكلبي عن حماد الراوية قال: حدثني بعض خدم سليمان بن عبد الرحمن قال: خرج سليمان بن عبد الملك يريد بيت المقدس، وكان أغير قريش وأسرعها طيرةً، فنزل منزلاً من غور البلقاء بدير لبعض الرهبان، فحف بالدير أهل العسكر، وكان في من خرج معه رجل من كلب، يقال له سنان، وكان فارساً ومغنياً محسناً، وشجاعاً، وبغيرة سليمان عبد الملك عارفاً، ولم يك يسمع له صوت في عسكره، فزاره في تلك الليلة فتية من أهله، فعشاهم، وسقاهم، فأخذ فيهم الشراب، فقالوا: يا سنان! ما أكرمتنا بشيء أن لم تسمعنا صوتك. فترنم فغناهم، فقال:
مَحجُوبةٌ سَمِعَتْ صَوْتي فأرّقَهَا ... مِنْ آخِرِ اللّيلِ لمّا بَلّهَا السّحَرُ.
تَثْني عَلى فَخْذِهَا مُثْنَى مُعَصْفَرَة ... وَالحَلْيُ مِنْهَا عَلى لبّاتِهَا حَصِرُ.
لم يَحجُبِ الصّوْتَ أحرَاسٌ وَلا غَلَقٌ ... فَدَمعُهَا لطُرُوقِ الصّوْتِ مُنحَدِرُ.
في لَيلَةِ النّصْفِ ما يَدرِي مُضَاجِعُها ... أوَجْهُهَا عِنْدَهُ أبْهَى أمِ القَمَرُ.
لَوْ خُلّيَتْ لمَشَتْ نَحْوِي عَلى قَدمٍ ... تَكَادُ من رِقّةٍ للمَشيِ تَنْفَطِرُ.
فلما سمع سليمان الصوت قام فزعاً يتفهم ما سمع، وكان معه جاريته عوان، ولم يكن لها نظير في زمانها في الجمال والتمام والحذق بالغناء، وكان يحبها، فلما فهم الصوت ارتعدت فرائصه غيرة، ثم أقبل نحو عوان، وهي خلف ستر، فكشف الستر رويداً لينظر أنائمة هي أم مستيقظة، فوجدها مستيقظة، وهي صفة الأبيات: عليها معصفرة، وحليها على لباتها، فلما أحست به، وعلمت بأنه قد علم بأنها مستيقظة قالت: يا أمير المؤمنين! قاتل الله الشاعر حيث يقول:
ألا رُبّ صَوْتٍ جَاءَني مِنْ مُشَوّهٍ ... قَبيحِ المُحَيّا وَاضِعِ الأبِ واَلجَدّ.
قَصِيرِ نِجَادِ السّيفِ جَعْدٍ بَنَانُهُ ... إلى أمَةٍ يُعزَى مَعاً وَإلى عَبْدِ.
فسكن من غضبه قليلاً، ثم قال لها: فقد راعك صوته على ذلك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين صادف مني استيقاظاً، فقال: ويحك يا عوان! كأنه، والله، يراك وينعتك في غنائه في هذه الليلة، والله لأقطعنه أطباقاً كائناً ما كان. ثم بعث في طلبه فبعثت عوان خادماً إليه سراً، وقالت له: إن أدركته فحذرته، فأنت حر، ولك ديته. فخرج سليمان حتى وقف على باب الدير، فسبقت رسل سليمان، فأتوا به إلى سليمان مربوطاً حتى وقفوه بين يديه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا سنان الكلبي فارسك يا أمير المؤمنين. فأنشأ سليمان يقول:
تَثكَلُ في الثّكلى سنَاناً أُمُّه ... كَانَ لها رَيحَانَةً تَشُمّه.
وَخَالُهُ يَثْكَلُهُ وَعَمُّه ... ذُو سَفَهٍ هَنَاتُه تَعُمّه.
فقال سنان: يا أمير المؤمنين:
استَبْقِني إلى الصّبَاحِ أعتَذِرْ ... إنّ لسَاني بالشّرَابِ مُنكَسِرْ.
فارِسُكَ الكَلبيُّ في يوْمٍ نَكِرٌ، ... فإنْ يكُنْ أذنَبَ ذَنباً أوْ عَثَرْ.
فَالسّيّدُ العَافي أحَقُّ مَنْ غَفَرْ.
فقال سليمان: أعلي تجترئ يا سنان! أما إني لا أقتلك، ولكني سأنكل بك نكالاً يؤنبك من تفحلك. فأمر به فخصي، فسمي ذلك الدير دير الخصيان.












مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید