المنشورات

العظة القاتلة

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر، سنة خمس وخمسين، قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: أبو حمزة الصوفي: حدثني محمد بن مصعب بن الزبير المكي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة، ونحن ببلاد الروم في سرية عليها محمد بن مصعب الطرطوسي قال: كان بالمدينة غلام من بني مخزوم موصوف ببراعة الجمال، فإذا كان في أيام الحج حجبه أبوه عن الخروج إلى المسجد حتى يصدر آخر الحاج إشفاقاً عليه من أعين الناس وحذراً عليه منهم، فاشتهر بجماله ووصف بكماله، فكانت الرفاق تتحدث بحديثه، فقدم علينا رجل من الصوفية عند انقضاء عمرتهم، وقد رجعوا من الحج لزيارة قبر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وما بالمدينة يومئذ أحد من الحاج غيرهم، فخرج المخزومي في ذك اليوم، فأتى قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، ثم قعد في الروضة ينتظر الصلاة، فوقف عليه طلحة ينظر إليه ملياً، فرأى شيئاً لم ير مثله قط، ثم قال: يا فتىً اسمع عني مقالتي واعرض على قلبك كلامي، وافهم مني عظتي، فإني قد بدأتك بالنصيحة لما أملت لك من الله، عز وجل، فيها من حسن الجزاء، وجميل الثناء.
يا حبيبي أتدري من يراك، ومن يشهد عليك؟ قال: ومن هما يا عم؟ قال: الله تعالى يراك، ونبيه، صلى الله عليه وسلم، يشهد عليك، فإياك واقتراف المعاصي بحضرة نبيك، صلى الله عليه وسلم، فإنك لا تأتي أمراً في هذه البلدة يكون عليك فيه تبعة، إلا والله تعالى له حفيظ، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عليك به شعيدن وأصحابه لك خصوم، وكفى خصماً أن يكون القاضي عليه خالقه، والشاهد عليه نبيه، صلى الله ليه وسلم، والخصوم له خيرة الله من خلقه الصالحون من عباده فانتفض الغلام وسقط مغشياً عليه، واجتمع الناس فاحتملوه إلى منزله، فما أتى عليه ثلاثة أيام حتى مات.
خليلان في الجنة
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي.
قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: حدثان أبو حمزة الصوفي قال: حدثنا محمد بن الأحوص الثقفي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: كان محمد بن الحسين الضبي وعبد العزيز بن الشاه التيمي كأنهما هلالان أو درتان من حسنهما وجمالهما، فسمعا كلام أبي عبد الله الديلمي، وكان من أحسن الناس كلاماً وأظهرهم خشوعاً وأكثرهم صلاة واجتهاداً، فصحباه، وكانا معه لا يامن عليهما أبواهما أحداً غيره، فكان يحج بهما في كل عام، ويرابط معهما في السواحل سائر سنيه، حتى أخذا منهن ووعيا عنه، وتأسيا بأخلاقه، واحتذيا عاى طريقتهن وكانا مقبلين على طلب الخير والجهاد، فخرج بهما فرآهما رجل من الجند، فرأى شيئاً لم ير مثله، فأراد أخذهما منه، فحال بينه وبينهما، وأعانه الناس على ذلك، وكان مشهوراً بالنسك والعفاف، فاغتاله الجندي فقتله، وقبض على الغلامين، فمتنعا عليه، واستغاثا بالناس، فجاؤوا فنظروا إلى ابي عبد الله الديلمي مقتولاً، فأخذوا الجندي، وأتوا به السلطان فقتله.
قال أبي: فحدثني هذا الرجل قال: كنت حاضراً لهما، وقد دفناه ورجعا عن قبره، يعرف الحزن عليهما، والكآبة فيهما، فسمعت أحدهما يقول لصاحبه: ما ترى، يا اخي؟ قال: أرى أن يكون على عزيمتنا أو يمضي على ما عقدناه من نيتنا حتى نقضي راطنا، ونرجع إلى بلادنا، فقال له الآخر: لست أرى رأيك ولا ما أشرت بهن ولكن مصيبتنا بهذا الرجل ليست بصغيرة ولا حقه علينا بيسير، هـ علينا حق الوالد بالشفقة، وحق التعليم وطول الصحبة، وطهارة العشرة، وحسن المرافقة، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن نقيم على قبره مقدار رباطنا نستغفر له، ثم ننصرف، فإن عزمت أن نرابط بعد فعلنا، وإن أحببت أن نرجع صدرنا.
قال: قد قلت قولاً لن أخالفك عليه، فاسألاني الإسعاد لهما على ذلك، فأقمت معهما نيفاً على عشرين يوماً، فاعتل محمد بن الحسن، فاشتدت علته، فقلن عبد العزيز قلقاً شديداً، وجزع جزعاً لم أره من أحد قط، فقلت: ما هذا الجزع يا أخي؟ قال: أفلا يحق لي أن أجزع على أخ شقيق وحبيب شفيق؟ فسمعنا محمد فقال: يا عبد العزيز لا تجزع فإن الجزع لا يغني عن ي شيئاً مما نزل بي من الموت، واعلم يا أخي أنك أرفع عند الله، عز وجل، ردحةً مني.
فقال: وبم ذاك؟ قال: بمصابك بي، فبكى عبد العزيز حتى ألصق خده بالأرض وأبكى من حضر من النساك وغيرهم، فقال له محمد: يا أخي لا تبك فإني في أمر عظيم، وعلى خطر جسيم هو أكبر عندي وأجل في قلبي من بكائك، وقد شغلني الفكر فيك وفي وحدتك بعدي عن بعض ما أنا فيه من ألم العلة، وقد تزايدت علتي لما أراه في وجهك من الحزن والغم، فإن استطعت أن تحتسبني عند الله، عز وجل، فافعلن، ولا تطلقن علي عبرةً ولا تذرين بعدي دمعة، فإني منقول إلى رحمة وصائر إلى نعمة، لول كان أحد أحق بالبكاء من أحد لكنت أحق به لما نزل بي من الموت وشدة كربه وحياء مما حضرني من ملائكة ربي.
فصعق عبد العزيز، وخر مغشياً عليه، فدنوت من محمد بن الحسن، فقلت: ألك حاجة أو أمر توصيني به؟ فقال: أوصيك بإيثار تقوى الله، عز وجل، على جميع الأمور، وحاجتي أن تحفظني في أخي هذا، فإنه من أهم من أترك بعدي.
فقال له أبو المغلس الصوفي، وكان يشبه خشوعه بخشوع أبي عبد الله الديلمي: يا أبا عبد الله! قد عشتما مصطحبين منذ كنتما صغيرين، لا نعرف لأحد منكما خزيةً ولا نحفظ عليكما زلةً، فنشأتما على أمر واحد لم تتهاجرا، ولم تختصما، ولم تتفرقا، وقد تكلم بعض الناس فيكما بكلام قد رفع الله أقداركما عنه لما بيَّن الله تعالى اليوم من أموركما، ونشر من حسن طويتكما، فالحمد لله على ما أولاكما من ذلك. وقد تذكر أن أعلام الموت إليك قد أقبلتن والملائكة منك قد اقتربت، وإني أثق بفهمك، لما أعلم من حسن عقلك، فهل ترى أحداً منهم؟ 
فقال: إني أرى صوراً تقبل ولا أثبتها على حقيقة النظر.
قال: فما تجد؟ قال: أجد ألماً لو قسم على جميع الخلائق لكانوا في مثل حالي.
قال: صفه لي.
قال: وما عسى أن أصف لك منه؟ أجد نفسي كأنها بين جبلين قد اصطكا علي، وكأن أسنةً توخز في بدني، وكأن ناراً توقد في عيني، وأجد لهاتي قد يبست، فما أجد فيها شيئاً من ريقي.
فقال له أبو المغلس: إني قرأت بعض الأخبارن وما روي في الآثار: حتى يرى مقعده من النار، أو الجنة. فهل رأيت شيئاً من ذلك؟ قال: أما في وقتي هذا فلا.
فلما اشتد به الامر وكاد أن يغلبه الكرب أومأ بيده إلى أبي المغلس، فأصغى بأذنه إليه، فقال: إنك سألتني عن مقعدي، وهذه الروح قد خرجت من بعض جسدي، وارتفعت إلى حقوي، وقد رأيت مقعدي.
قال: وأين رايته؟ قال: رأيته في جنة عدن.
قال: فهل رأيت أبا عبد الله الديلمي؟ قال: إن روحه لترفرف علي، وقد رايت مقعده أفضل من مقعدي، ودرجته أفضل من درجتي، ولا احسب أنه قال إلا بالعلم الذي سبق إليه قبلي، أو بالشهادة التي اختصه الله تعالى بها دوني، وهذه روحه تبشر روحي بما أعده الله تعالى لي مما لم يبلغه عملي، ولا أحاط به فهمي، ولا استحقه بفعلي مما يعجز عن صفته قول، ثم مد يده وغمض عينيه، وقضى، رحمة الله عليه.
ثم إن عبد العزيز أفاق بعد طويل فحضر غسله وجهازه، ودفنه، ورجع، ورجعنا معه، فمكث أياماً لا يطعم ولا يتكلم، وحضرت صلاة الغداة، فقام إلى جانبي في الصف، فسمعته يدعو بعدما فرغ من الصلاة، وهو يقول: اللهم لا تجمع علي كرب الدنيا وعذاب الآخرة، وعجل خروجي عن الدنيا سالماً منها غل رضاك ومغفرتك، وارحم غربتي، وأجب دعوتين واجمع بيني وبين من أحبني فيك، وأحببته لك، ولا تفرق بيني وبينه، واجعل اجتماعنا في محل الفائزين.
ثم قال: أقسمت عليك ألا فعلت. ثم خر ساجداً فظننت أنه قد سجد وأطال السجود، فدنوت منه، فحركته، فإذا هو قد قضى، فدفنته إلى جنب صاحبه، فكنا حيناً من الدهر نتحدث بحديثهم، وبما وهب الله، عز وجل، لهم من الاجتماع في الدنيا والآخرة، وبما أفضوا إليه من الكرامة والرحمة.
قال: فمكثت سنين أتمنى أن أرى واحداً منهم في منام، فرأيت عبد العزيز بن الشاه، وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، فناديته، فوقف، فقلت: ما عل الله بك؟ قال: غفر لي.
قلت: بماذا غفر لك؟ قال: بقول الناس في ما لا يعلمون وبرميهم إياي بالإفك والظنون.
قلت: فما فعل محمد بن الحسن؟ قال: جمع الله بيني وبينه، وأنا وهو في درجة واحدة.
قلت: فما فعل أبو عبد الله الديلمي؟
3ا - ل: هيهات! ذاك رجل أبيح له الجنة، فهو يسرح فيها، ويحل منها حيث يشاء.
قلت: وبم ذاك؟ قال: بما سبق له من السعادة، وبفضل أجر الشهادة، وبحفظه لفرجه عن الحرام، وطرفه ولسانه عن الآثام.
فقلت " كيف وجدت الموت؟ قال: هونه الله علي لما علم من ضعفي وطول حزني.
قلت: هل رأيت جهنم؟ قال: وهل الصراط إلا عليها، والورود إلا إليها؟ نعم قد رأيتها ووردتها، فما آلمني حزها، ولا أفزعني زفيرها.
قلت: فكيف كان ممرك على الصراط؟ قال: كما يجري الفرس الجواد على الأرض البسيطة التي ليس فيها حجر يخاف أن يعثر به.
قلت: هل رأيت منكدراً الشعراني؟ قال: رأيته وسلمت عليه، وما أقرب درجته من درجة أبي عبد الل الديلمي.
قلت: وبم أعطي ذلك؟ قال: بغضه لطرفه وحفظه لفرجه.
قلت: فهل رايت مغلساً الصوفي؟ قال: نعم، رايته على فرس من ياقوت أحمر، يطير به في الجنة.
فقلت له: اين تريد؟ فقال: أريد أن أستقبل أرواح قوم قتلوا في البحر.
قلت: وكيف أعطي ذلك؟ قال: بفضل رحمة الله.
قلت: قد علمت أنه إنما نال ذلك بفضل الله تعالى وبرحمته.
قال: بكثرة البكاء وملازمة الدعاء وطول الظّماء وصبره على البلاء.











مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید