المنشورات

الهارب إلى ربه والآبق من ذنبه

أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور الزاهد القواس، رحمه الله، قال: حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن سهل إملاء سمعته من لفظه قال: حدثنا سعيد بن عثمان بن عباس الخياط قال: حدثنا أحمد محمد بن عيسى الإسكندراني واصله مصيصي قال: حدثني منصور بن عمار قال: بينا أنا سائر في بعض طرقات البصرة، إذا أنا بقصر مشيد، وخدم وعبيد، وبسمر القنا منصوبةً وقباب الأدم مضروبةً، وإذا حاجب قد جلس على كرسي من حديد، وثنى رجلاً على رجل، كأنه جبار عنيد، فهممت بأن أدنو من القصر، فصاح بي تجبراً وتحكماً: ويحك! أما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره؟ قلت: هذا ملك يكوت والحي في السماء ملك لا يموت، والله لأدنون من القصر، فأنظر لمن هو.
فدنوت من ورائه فإذا أنا بمنابر طوال مشبكة بقضبان الذهب والفضة، وإذا بغلام جالس على كرسي من ذهب مرصع بأنواع الجوهر، كأنه غصن بان أو مشق قضيب ريحان، أخضر الشارب صلت الجبين، سهل الخدين مقرون الحاجبين، كأن لبته صفحة فضة، وخده أشبه بخدود النساء من خدود الرجال، قد حزق في الفنك والسمور، ورقيق الكتان، وهو ينادي بحنين جرمه: يا نشوان! فما لبثت أن خرجت علي جارية كأنها خوط بان أو مشق قضيب ريحان، عليها مرط حرير أخضر، قد لصق على رطوبة جسمها، تمشي على فاضل شعرها تطرق بنعلها، وتفنن، والله، من رآها، فلا أدري، والله، الجارية كانت أحسن أم الغلام، فخشيت أن تغشاني، ففتحت الأبواب، فخرج الغلمان فتلببوني وقالوا: ويحك! ما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره حتى نظرت إلى حرمة الملك.
فقلت: لمن يكون هذا القصر؟ فقالوا: لملك البصرة، وابن سيدها.
فدخلت إليبه فنظر إلي وأجال حماليق عينيه، كأنهما عينا ظبي تتفرس إلي، فقال لي " لقد اجترأت علي إذ نظرت غلى حرمتي.
فقلت: أيها الملك! جد بعفوك على ضعفي، وبحلمك على جهلي، فإني رجل طبيب، ولا يرى في كتب الحكماء قتل الطبيب، وإني لأرى في جسمك هذا مدخلاً قد التوت عليه الضلوع والأعضاء، وهو رقيق في الضمير، ما بين الأحشاء. يا غلام قد حزقت في الفنك والسمور، هل لك صبر على مقطعات التيران، وسرابيل القطران، وصوت مالك وعرض الرحمن؟ أما سمعت أنه ينادى بالنار يوم القيامة بأربعة أصوات: يا نار كلي ولا تقتلي، يا نار أحرقي، يا نار أنضجي، يا نار اشتفي، فإذا سمعت النار يا نار كلي، أكلت بوهج اللهب من بين أطباقها، فويل للطبقة السفلى من الطبقة العليا كيف يتراكب عليهم الدخان من بعد مهاويها، وقد شدوا في سلاسلها وقرنوا مع شياطينها، وأرسلت عليهم حياتها وعقاربها.
فصرخ الغلام صرخةً، ثم قال: يا طبيب قتلتني، وبأسهم المنايا رشقتني، فما أخطأت صميم كبدي، ويحك يا طبيب، ما أحر مكاويك،وأرشق نبلك.
فقلت له: حبيبي قد أعجبك نشوان، فلو نظرت إليها بعد ثالثة من وفاتها، وقد تمعط شعرها، وسال صديدها، وبلي بدنها، إذن لمقتهان أفلا أصف لك نشوان الجنان التي ذكرها الله تعالى في القرآن: إنا أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين، جارية إذا خطرت مالت الأشجار إلى حسن وجهه، وصفرت الطير إلى جمالها طرباً، وإذا وقفت وقف جاري الماء لوقوفها، وإذا مشت تبسمت الحضرة من تحت زمام نعلها، ويكاد ينظوي من رطوبة جسمها، جارية خلقت من الزعفران والمسك الأذفر، بلا تعب ولا نصب، فترى مجرى الدم منها كما ترى الخمرة في الزجاجة البيضاء. قال لها بارئ النسم: كوني فكانت.
قال: فصاح الغلام: يا طبيب قتلتني، وبسهم المنايا رشقتني، ثم ضرب بيده إلى أقبيته فشقها، ورمى بسيفه ومنطقته، ووثب قائماً على قدميه يرتعد كالسعفة في يوم ريح عاصف، ثم اقل: يا قصر! عليك السلام قد هربني هذا الطبيب الشفيق الرفيق.
قال منصور: فصرخت نشوان صرخةً من داخل القصر، وقالت: يا مولاي والله ما تنصفني، تهرب وتتركني، رويداً مكانك، فخرجت علي نشوان، وقد قصرت من شعرها، ثم قالت: يا مولاي! من أراد السفر إلى بلد قفر هيأ الزاد، ومن أراد التوبة شمر لها.
قال منصور: ثم هربا جميعاً، فخرجت إلى باب القصر، فإذا أنا بالقباب قد نزعت، وبالخيام قد رفعت، وبالحجب قد نحيت، فوقفت فناديت بأعلى صوتي: يا أيها الهارب إلى ربه، والآبق من ذنبه، لقد هربت إلى أكرم الأكرمين.
قال منصور: فلما كان بعد حولين كاملين حججت إلى بيت الله الحرام، فبينا أنا في الطواف إذ سمعت صوت محزون مكروب مغموم، وهو يقول: إلهي وسيدي! نحل جسمي ودق عظمي ورق جلدي وخرجت من مالي رجاء أن تريني وجهك الكريم الجميل، وتجمع بيني وبين نشوان في الجنان.
قال منصور: فدنوت منه فقلت: يا غلام ما أقل حياءك! بأي حق تطلب من ربك نشوان الجنان؟ فنظر إلى وبكى وقال لي: رفقاً يا طبيب! رفقاً هكذا تضرب بسوطك جسماً عليلاً، ثم لا تعرفه؟ أنا والله ملك البصرة وابن سيدها.
قال منصور: فوالله ما عرفته إلا بخال كان في وجهه، وقد نحل وذاب جسمه، فقلت له: حبيبي ما فعلت نشوانك؟ فبكى وقال: يا ابن عمار، والله لو رأيتها ما عرفتها، قد ذهب البكى ببصرها، ومحت الدموع محاسن وجهها.
فقلت له: حبيبي! ما كان أحوجني إلى رؤيتها، فاخذ بيدي، فأوقفني إلى باب خيمة من الشعر، فقلت: أحبتي! بعد القصور صرتم إلى خيام الشعر، لقد أبلغتم في العبادة.
فخرجت نشوان من داخل الخيمة فقالت: بالله! أنت منصور بن عمار؟ فقلت لها: نعم! فقالت لي: يا منصور أترى ربي يسكنني الجنان ويريني نشوان الجنان؟ فقلت لها: جدي في الطلب، وأحسني المعاملة، تخدمك الولدان، وتسكنني الجان، وتري نشوان الجنان، وتزوري الله، عز وجل، الملك الديان.
قال منصور بن عمار: فشهقت شهقةً خرت منها ميتةً بإذن الله، قال: فبكى الغلام وقال: بأبي والله من كانت مساعدتي على الشدة والرخاء!
ولم يتمالك الغلام أن شهق أيضاً شهقةً خر منها ميتاً.
قال منصور: فأخذنا في جهازهما، وغسلناهما وكفناهما، وصلينا عليها، ودفناهما، رحمهما الله.











مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت


تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید