المنشورات

المعتزلة يتوسطون الفرق

قلت لك إني قد سمعت من هذا روايات ورويت فيه أشعارا وسمعت من الناس فيه خوضا كثيرا، وسأقيمك على الواضحة وأقف لك على الجادّة، بل على العلم العظيم والمنهج الفسيح إن شاء الله؛ وخير الاقاويل بل أعدلها وأرضاها عند الله أقصدها، ولذلك اخترنا الاعتزال مذهبا وجعلناه نحلة ومفخرا؛ وسنقدم قبل القول في هذه المسألة قولا، فافهمه، قالت الجهميّة:
«لا نقول إنّ الله معنى ولا نقول إنه شيء، ومتى أضفنا إليه شيئا فمتى نحن أضفناه إليه فذلك الشيء فعل من أفعاله، كذلك سمعه وبصره وعلمه وقدرته» . وقالت الرافضة: «هو جسم فضلا عن ان نقول إنّه شيء» ؛ وقالت المعتزلة: «هو شيء وليس كمثله شيء، وليس بجسم وليس علمه بفعل ولا صنع، وإنما قولنا: له علم، كقولنا: هو عالم، نريد أنه لا يخفى عليه خافية» .
وقالت المرجئة: «القاذف مؤمن» ، وقالت الخوارج: «القاذف كافر» ، وقال بعضهم: مشرك؛ وقالت البكريّة: «بل هو أسوأ حالا من المشرك، والمنافق أشدّ عذابا من الكافر» ؛ وقالت المعتزلة: «هو فاسق كما سمّاه نصّا ولا نسمّيه كافرا فيلزمنا أن نلزمه أحكام الكفّار وليس ذلك حكمه، ولا نقول:
مؤمن، فيلزمنا ولايته ومدحه وإيجاب الثواب له، وقد أخبرنا الله تعالى أنّه مشؤوم من أهل النار، فنزعم أنّه في النار مع الكافر وأنّه لا يجوز أن يكون في الجنّة مع المؤمن» .
وقالت الخوارج في قتال الفئة الباغية: «نسير فيها بالإكفار وبالسبي والغنائم وباتّباع المدبر والاجهاز على الجريح» ؛ وقالت المرجئة: «لا قتال» ؛ وقالت المعتزلة بالقول المرضي وهو إيجاب القتال على جهة الدفع لا على القصد إلى القتال ولا على السبي ولا على الاجهاز على الجرحى ولا على استحلال الاموال، فلم نفرط إفراط الخوارج ولم نقصّر تقصير المرجئة، ودين الله بين المقصّر والغالي، وهذا الاشتقاق، وهو التوسّط والاقتصاد، هو الاعتزال لغلوّ من غلا وتقصير من قصّر؛ والاصل الذي نبني عليه أمورنا فيمن ليس عندنا كعليّ وسابقته وأرومته وكامل خصاله بل في أدنى رجل من أوليائنا، أنّا متى وجدنا له عملا يحتمل الخطأ والصواب لم يكن لنا ان نجعل عمله خطأ، حتى يعيينا فيه وجه الصواب، وليس لنا بعد ان قضينا بانه خطأ أن نقضي بأنه خطيئة حتى يعيينا القدر بانه سليم من طريق المآثم، فان قضينا بانه إثم فليس لنا أن نقضي بانه ضلال ونحن نجد لصرف الدفع عنه أنه ضلال الى الاثم محتملا، وإن قضينا بانه ضلال فليس لنا ان نقضي بانه كفر إلّا بعد ألّا نجد من ذلك بدّا فيكون الحقّ أحقّ ما قضي به وصبر عليه.
فمن كانت- حفظك الله- هذه سيرته وطريقته في أدنى أوليائه، فكيف تظنّه في أرفع أوليائه؟ فهذا ما لا يحلّ لي أن أظنه بعليّ بن أبي طالب؛ فان كان عندك برهان واضح ودليل بيّن يكشف لنا عن الحال فيه حتى يتبيّن به انه كان سببا من إراقة دمه، فعلينا السمع واليقين والاقرار وعليك البيان والافهام بالدليل والحرص.
واعلم أنّ الرجل المخوف على الملك قد يكون محبوسا عند الملك القائم فيموت حتف أنفه: فلا يشكّ الناس أن الملك هو الذي أمر بقتله، ويموت على فراشه وفي منزله: فلا يشكّون انه قد دسّ إليه السموم وأدبّ إليه العقارب، ويموت وهو ناء عنه: فلا يشكون انه قد احتال له وتقدّم في ذلك من أمره على يدي طبيب أو خادم أو طبّاخ أو صاحب شراب على بعد داره وشطون مزاره، ولو تمنّع مكانه واشتدّ احتراسه؛ ولو قتله هبوب الريح أو صعقته صاعقة لوجدت من يقول في ذلك قولا مرغوبا عنه.
وقد قال بعض العلماء ممن تعلم: «لقد عجز عن معرفة أمر عثمان من شهده، فكيف بمن غاب عنه؟» ؛ ولو كان معاوية القائم، بزعمه، بدمه هو القائم بعده بالحجاز والعراق، لوجدت من يقول إنه قد كان دسّ عليه وربض به وأفسد عليه وأنغل، إن لم يجدوا شيئا ظاهرا؛ هكذا الناس فاعرفهم، إلّا من عصم الله ولا يعصم الا المخلصين.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید