المنشورات

احتجاج السفيانية بان معاوية لم يكن قاسطا

«ولو كان معاوية سيىء السيرة في أهل الشام سيىء النظر للعوام غير مصيب في سياسة الأجناد وفي ترتيب الأشراف وفي تقريب العلماء وفي رحمة المساكين ولم يكن عفيفا عن المال شديدا على الفاسد قامعا للظالم قويا في الحق سهل الحجاب معظّما للشريف منصفا للضعيف بصيرا بالحزم عالما بالحكم كثير الفتوح رحب العطن واسع الصدر ميمون النقيبة فاضل الحلم، قد جمع المحبة والهيبة، لما لقوا معه بجباههم ظباة السيوف وبنحورهم أطراف الأسنّة، ولمّا خلّفوا العيالات وراءهم [و] ملك الروم قد زحف اليهم، ولولا أنّ عدله عليهم وحسن سيرته فيهم قد كان دخل كلّ قلب وخصّ كلّ شخص وتمكّن من كلّ قلب، لكانت الملالة لطول الولاية والذي يعتري النفوس من الضجر والضعة عند السآمة قد منع من ذلك وأعان عليه من لم يعنه، ولكان أحسن حالاته أن ينجو منهم سالما لا له ولا عليه.
وهل رأيتم قطّ أو سمعتم برجل ولي مثل ما وليّ من أمر الناس أربعين سنة، عشرين سنة منها كان فيها أميرا وعشرين سنة كان فيها خليفة، وكانوا مع ذلك يوم فارقهم أضنّ به وأميل إليه منهم في ابتداء ولايته وفي أوّل ما أذاقهم من حلاوة إمرته، وقد رويتم أنّ عليّا قال: «لا تتمنّوا موت معاوية، فإنّه لو مات لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها» ؛ وقال معاوية: «لو أنّ شعرة طرفها في يدي وطرفها الآخر في أيدي الناس لما انقطعت أبدا» - قيل له: «وكيف ذلك؟» - قال: «كنت إذا مدّوا أرسلت وإذا أرسلوا مددتّ» .
فمن أين سمّاهم القاسطين، والقاسط هو الجائر؟ فأيّ جور كان رأى منه؟ ولو كان صاحب جور كان من أغضى له على ذلك الجور أجور، فهذا إسم أصحاب يوم الجمل اشتقّ لهم من النكث لنكث الرّجلين؛ وهذا اسم أصحاب النهر اشتقّ لهم اسم الحروريّة من نزولهم بحروراء، واسم المارقين لأنّهم مرقوا عنده من الحقّ مرّتين: مرّة حين عرّفهم أن رفع المصاحف خدعة، فعصوه ومرقوا عن أمره، ومرّة لمسألتهم إيّاه العودة وهو يرى فيهم الوهن وفساد القلوب وضعف الركن.
خبّروني عن معاوية أيّ جور ظهر منه منذ ولّاه عمر إلى أن قتل عثمان، وعلى من كان جار، وأيّ شيء ذلك الجور، ومن يعرف ذلك ومن يشهد به عليه؟ فان زعمتم أنّ امتناعه من اعتزاله [عن] العمل هو جور فلذلك سمّاه قاسطا ثمّ عمّ به الجميع لطاعتهم له، فقد قلنا في ذلك ما قد سمعتم؛ وكيف ونحن لم نر أحدا من فقهائهم لم يأخذ منه عطاءه ولا أبى جائزته ولا أسقط اسمه من ديوانه «ولا ترك ابتياع السبي من مغنم عمّال ثغوره ولا ترك وطر ما يبيع من مقاسمه ولا ترك الأكل والبيع والابتياع من ثمار قطائعه، ولقد سمّوا العام الذي سلم إليه فيه الحسن الخلافة «عام الجماعة» ، ولقد دفع إليه عبد الرحمن إبن سمرة، وهو من كبار الصحابة، مالا كان عنده وعليّ حي، وقال: «جبيته في الجماعة فلم أكن لأدفعه إلّا في الجماعة» ؛ وقيل لابن عمر: «ما منعك من أخيك ابن الزّبير حين نصب نفسه للخلافة وخرج على يزيد بن معاوية؟» » - فقال: «إنّ أخي وضع يده في فرقة وإنّي لن أنزع يدي من جماعة وأضعها في فرقة» .













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید