المنشورات

احتج السفيانية بانه لا بد من الدين والسيف في الملك

وقالوا: ولو ادّعى رجل عندنا النبوّة وذكر أنّه يستشهد إحياء الموتى والمشي على الماء، ثمّ زعم أنّ الملك مستقيم دون منعه بالسيف والسوط، لعلمنا أنّه لم يكن ليأتي بعلامة أبدا ولا يقيم شاهدا على دعواه أبدا، إلا ان يأتي قوم طبائعهم على خلاف طبائعنا وحالاتهم على خلاف حالاتنا وعاداتهم على خلاف عاداتنا وأسبابهم على خلاف أسبابنا؛ فأمّا والأمر على ما شاهدنا من طبائع الناس اليوم وعلى ما سمعنا من طبائع العرب في جاهليّتها وإسلامها والعجم في سالف أيّامها، فانّ ذلك لا يجوز ولا يقوله من يعرف الدنيا وما فيها؛ ولذلك لم يكن للزنادقة مملكة قطّ ولا تكون أبدا، ولقد اضطرّ الأمر نصارى الروم ونصارى الحبشة إلى الدفع بالسيف حين رغبت في الملك ومالت إلى الدنيا مع علم جميع العالم أنّ القتال ليس من دينها ولا من مذهبها.
ألا ترى أنّ الله لم يخل الدنيا من أن يجعل فيها نبيّا يحمل السلاح ويقيم جزاء الحسنة والسيئة ويستعمل السيف والسوط، أو يضمّ إليه ملكا يذبّ عن النبوّة بعز الملك ويدعو النبيّ إلى طاعته برأفة النبوّة؛ فأمّا أن يرفع أحدهما من العالم فلا بدّ من اجتماع اللين والشدّة إمّا في شخص واحد وإمّا في شخصين، وقد قال الله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
، وفي المثل المحمود: «قتل البعض إحياء الجميع» ، وليس في الأرض ملك إلّا وأطراف مملكته تنتهي إلى حدود ممالك الملوك، فهو وإن تنصّر فإنّ الملوك لا يتنصّرون معه، وإن تزندق لم يتزندقوا معه، على أنّ الملوك لم تنصب الأديان رغبة في الديانات ولكنها تعلم أنّها إن لم يكن لها دين لم تلزم بيعة ولم يثبت عقد أولى الملك من بعدها، ولم يتديّن الناس بقتال من يخرج عليها ويريد إزالتها؛ وإن لم يكن دين كانت الأموال منتهبة والزوجات مشتركة ولم يثبت نسب ولم يكن لأحد وارث ولم يكن تزويج ولا طلاق ولا ملك ولا عتاق ولم يثبت توكيل ولا أجرة ولا شهادة ولا وصية ولا شرط ولا عهد ولا حدود ولا قصاص ولا قود ولا حبس ولا إقرار ولا إنكار ولا دعوى ولا أيمان ولا بيع ولا شراء ولا ميراث؛ وإنّما يحرص عليه لأنّ به وفيه ثبات ملكه وتوكيد سلطانه، ثمّ لا يبالي ما قالوا في الله وما جوّزوا على الله وكيف وقعت الأمور بعد أن يستقيم له شيء يكون فيه وبه ثبات الملك.
فإن كنت تحبّ أن تعلم أنّ الذي أقول حقّ فتأمّل قول كسرى مع شدّة عقله في الله وفي إبليس وفي أعلام زرادشت وفي شرائعه من غشيان الأمهات والتوضؤ بالأبوال، وفي دين قيصر وقوله في الله وفي المسيح وفي بولص، وفي دين ملوك العرب وفي عبادة الحجارة، وفي ملوك الهند في البدّ وفي تعظيم الزنا، ودخول النيران، وهؤلاء رؤساء الأمم، فانظر كيف تجدهم في الأديان.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید