المنشورات

حلف الفضول

قال أبو عثمان: ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته، وهو أشرف حلف كان في العرب كلها وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الاسلام. لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر حلف الفضول: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الاسلام لأجبت. ويكفي في جلالته وشرفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهده وهو غلام. وكان عتبة بن ربيعة يقول: لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لدخلت في حلف الفضول لما أرى من كماله وشرفه ولما أعلم من قدره وفضيلته. قال: ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي «حلف الفضول» وسميت تلك القبائل «الفضول» فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم بن مرة. تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش والتساهم بالمال.
وكانت النباهة في هذا الحلف للزّبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان. أما ابن جدعان فلأن الحلف عقده في داره، وأما الزبير فلأنه هو الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه، وهو الذي سماه «حلف الفضول» وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم ثمن سلعته قد أوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته، وقريش في أنديتها، قائلا:
يا للرّجال لمظلوم بضاعته ... ببطن مكّة نائى الحيّ والنفر
إنّ الحرام لمن تمّت حرامته ... ولا حرام لثوبي لابس الغدر
حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوى من ظلم الضعيف، والقاطن من عنف الغريب. ثم قال:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنّا جميعا أهل دار
نسمّيه الفضول إذا عقدنا ... يعزّ به الغريب لدى الجوار
ويعلم من يطوف البيت أنّا ... أباة الضّيم نهجر كلّ عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف «حلف الفضول» وهم كانوا سببه والقائمين به دون جميع القبائل العاقدة له والشاهدة لأمره، فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره؟
قال أبو عثمان: وكان الزبير بن عبد المطّلب شجاعا أبيا وجميلا بهيا، وكان خطيبا شاعرا وسيدا جوادا، وهو الذي يقول:
ولولا الحمس لم يلبس رجال ... ثياب أعزّة حتّى يموتوا
ثيابهم شمال أو عباء ... بها دنس كما دنس الحميت
ولكنّا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت
وكأس لو تبين لهم كلاما ... لقالت إنّما لهم سبيت
تبين لنا القذى إن كان فيها ... رصين الحلم يشربها هبيت
ويقطع نخوة المختال عنّا ... رقاق الحدّ ضربته صموت
بكفّ مجرّب لا عيب فيه ... إذا لقي الكريهة يستميت
قال: والزبير هو الذي يقول:
وأسحم من راح العراق مملا ... محيط عليه الخيش جلد مرائره
صبحت به طلقا يراح إلى النّدى ... إذا ما انتشى لم يختصره معاقره
ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه ... كليل على جلد النّديم أظافره
قال: وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزّبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي، وفي ذلك يقول البارقي:
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بنى جمح والحقّ يؤخذ بالغصب
وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجّاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي، وكان كابره عليها حين رأى جمالها. وفي ذلك يقول نبيّه بن الحجاج:
وخشيت الفضول حين أتوني ... قد أرابى ولا أخاف الفضولا
إنّني والّذي يحجّ له ... شمط إياد وهلّلوا تهليلا
لبراء منّي قتيلة يا للنّاس ... هل يبتغون إلّا القتولا
وفيها أيضا يقول:
لولا الفضول وأنّه ... لا أمن من عدوائها
لدنوت من أبياتها ... ولطفت حول خبائها
في كلمته التي يقول فيها:
حيّ البخيلة إذ نأت ... منّا على عدوائها
لا بالفراق تنيلنا ... شيئا ولا بلقائها
حلّت بمكّة حلّة ... في مشيها ووطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات. ولم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء ولهم العدد والعارضة، منهم من ذكرنا قصته.










مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید