المنشورات
خصال الاتراك
فأمّا حميد فإنّه قال:
الشّدّة الأولى التركيّ فيها أحمد [أثرا، وأجمع] أمرا، وأحكم شأنا؛ لأنّ التركيّ من أجل أن تصدق شدّته ويتمكّن عزمه، ولا يكون مشترك العزم ولا منقسم لخواطر، قد عوّد برذونه ألّا ينثني وإن ثناه، أن يملا فروجه للأمر يديره مرّة أو مرّتين، وإلّا فإنّه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه. وإنّما أراد التركيّ أن يوئس نفسه من البدوات، ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول [اللقا] ، وحبّ الحياة؛ لأنّه إذا علم أنه قد صيّر برذونه إلى هذه الغاية حتّى لا ينثني ولا يجيبه إلى التصرّف معه إلّا بأن يصنع شيئا بين الصّفّين فيه عطبه، لم يقدم على الشّدّة إلّا بعد إحكام الأمر، والبصرة بالعورة. وإنّما يريد أن يشبّه نفسه بالمحرج الذي إذا رأى أشدّ القتال لم يدع جهدا ولم يدّخر حيلة، ولينفى عن قلبه خواطر الفرار، ودواعي الرّجوع.
وقال: الخارجيّ عند الشّدّة إنّما يعتمد على الطّعان، والأتراك تطعن طعن الخوارج، وإن شدّ منهم ألف فارس فرموا رشقا واحدا صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على هذا النّوع من الشّدّة! والخوارج والأعراب ليست لهم رماية مذكورة على ظهور الخيل، والتركيّ يرمي الوحش والطّير، والبرجاس، والناس، والمجثّمة، والمثل الموضوعة، ويرمى وقد ملأ فروج دابّته مدبرا ومقبلا، ويمنة ويسرة، وصعدا وسفلا، ويرمي بعشرة أسهم قبل أن يفوّق الخارجيّ سهما واحدا، ويركض دابّته منحدرا من جبل، أو مستفلا إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجيّ على بسيط الأرض.
وللتركيّ أربعة أعين: عينان في وجهه، وعينان في قفاه. وللخارجيّ عين في مستدبر الحرب، وللخراسانيّ عين في مستقبل الحرب. فعيب الخراسانيّة أنّ لها جولة عند أوّل الالتقاء، وإن ركبوا [كسأهم] كانت هزيمتهم، وكثيرا ما يثوبون، وذاك [بعد] الخطار بالعسكر، وإطماع العدوّ في الشّدّة.
والخوارج إذا ولّوا فقد ولّوا وليس لهم بعد الفرّ كرّ، إلّا ما لا يعدّ.
والتركيّ ليست له جولة الخراسانيّ، وإذا أدبر فهو السّمّ الناقع، والحتف القاضي؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر كما يصيب به وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه، ولا انتساف الفرس، واختطاف الفارس بتلك الرّكضة.
ولم يفلت من الوهق في جميع الدّهر إلّا المهلّب بن أبي صفرة، والحريش هلال، وعبّاد بن الحصين. وربّما رمى بالوهق وله فيه تدبير آخر وإن لم يجنب المرميّ معه، يوهم الجاهل أنّ ذلك إنما كان لخرق التّركي، أو لحذق المرميّ.
قال: وهم علّموا الفرسان حمل قوسين وثلاثة قسيّ، ومن الأوتار على حسب ذلك.
قال: والتركيّ في حال شدّته، معه كلّ شيء يحتاج اليه لنفسه وسلاحه ودابّته وأداة دابّته. فأمّا الصّبر على الخبب وعلى مواصلة السّفر، وعلى طول السّرى وقطع البلاغ، فعجيب جدا.
فواحدا: أنّ فرس الخارجيّ لا يصبر صبر برذون التّركي.
والخارجيّ لا يحسن أن يعالج فرسه إلّا معالجة الفرسان لخيولهم والتّركي أحذق من البيطار، وأجود تقويما لبرذونه على ما يريده من الرّاضة [وهو استنتجه] ، وهو ربّاه فلوا، وتتّبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه. وقد عوّده ذلك حتّى عرفه، كما يعرف الفرس أقدم، والنّاقة حل، والجمل جاه، والبغل عدس، والحمار ساسا، وكما يعرف المجنون لقبه والصبيّ اسمه.
ولو حصّلت عمر التركيّ وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر دابّته اكثر من جلوسه على ظهر الأرض. والتركيّ يركب فحلا أو رمكة، ويخرج غازيا أو مسافرا، أو متباعدا في طلب صيد، أو سبب من الأسباب، فتتبعه الرّمكة وأفلاؤها، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن أخفق منها أو احتاج الى طعام فصد دابّة من دوابّه، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدة تحته ركب أخرى من غير أن ينزل الى الأرض. وليس في الأرض أحد إلّا وبدنه ينتقض على إقتيات اللّحم وحده غيره؛ وكذلك دابّته تكتفي بالعنقر والعشب والشّجر، لا يظلّها من شمس ولا يكنّها من برد.
قال: وأما الصّبر على الخبب فإنّ الثّغريّين، والفرانقيّين، والخصيان والخوارج، لو اجتمعت قواهم في شخص واحد لما وفوا بتركيّ واحد.
والتركيّ لا يبقى معه على طول الغاية إلّا الصّميم من دوابّه. [و] الذي يقتله التركيّ بإتعابه له، وبنفيه عند غزاته، هو الذي لا يصبر معه فرسالخارجيّ، ولا يبقى معه كلّ برذون بخاريّ. ولو ساير خارجيّا لاستفرغ وسعه قبل أن يبلغ الخارجيّ عفوه.
والتّركي هو الراعي، وهو السائس وهو الرائض، وهو النّخّاس، وهو البيطار، وهو الفارس. والتركيّ الواحد أمّة على حدة.
قال: وإذا سار التركيّ في غير عساكر التّرك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلا؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنة ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصّيد؛ وهو في ذلك يرمي [كلّ] ما دبّ ودرج، وطار ووقع.
قال: والتركيّ لم يسر في العساكر سير النّاس قطّ، ولا سار مستقيما قطّ.
قالوا: وإذا طالت الدّلجة واشتدّ السير، وبعد المنزل، وانتصف النّهار، واشتدّ التّعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا، وقطعهم ما هم فيه عن التّشاغل بالحديث، وتفسّخ كلّ شيء من شدّة الحر، وخمد كلّ شيء من شدّة البرد، وتمنّى كلّ جليد القوى على طول السّرى أن تطوى له الأرض، وكلّما رأى خيالا أو أبصر علما سرّ به واستبشر، وظنّ أنّه قد بلغ المنزل؛ فإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحّج كأنّه صبيّ محقون، يئنّ أنين المريض، ويستريح الى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطّي والتضجّع. وترى التركيّ في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النّزع، يرى قرب المنزل عيرا أو ظبيا، أو عرض له ثعلب أو أرنب، فيركض ركض مبتدىء مستأنف، كأنّ الذي سار ذلك السّير وتعب ذلك التّعب غيره.
وإن بلغ الناس واديا فازدحموا على مسلكه أو [على] قنطرته، بطن برذونه فأقحمه ثم طلع من الجانب الآخر كأنّه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبة صعبة ترك السّنن وذهب في الجبل صعدا، ثم تدلى من موضع يعجز عنه الوعل؛ وأنت تحسبه مخاطرا بنفسه، للذي ترى من مطّلعه. ولو كان في كلّ ذلك مخاطرا لما دامت له السلامة مع تتابع ذلك منه.
قال: ويفخر الخارجيّ بأنّه إذا طلب أدرك، وإذا طلب لم يدرك.
والتركيّ ليس يحوج إلى أن يفوت؛ لأنه لا يطلب ولا يرام. ومن يروم [ما لا يطمع فيه] ؟! فهذا. على أنّا قد علمنا أنّ العلّة التي عمّت الخوارج بالنّجدة استواء حالاتهم في الدّيانة، واعتقادهم أنّ القتال دين؛ لأنّنا حين وجدنا السّجستانيّ والخراساني والجزريّ واليماميّ والمغربيّ والعمانيّ، والأزرقيّ منهم والنّجديّ والإباضيّ والصّفريّ، والمولى والعربيّ، والعجميّ والأعرابيّ، والعبيد والنّساء، والحائك والفلّاح، كلّهم يقاتل مع اختلاف الأنساب وتباين البلدان- علمنا أنّ الدّيانة هي التي سوّت بينهم، ووفّقت بينهم في ذلك. كما أنّ كلّ حجّام في الأرض من أيّ جنس كان، ومن أي بلد كان، فهو يحبّ النّبيذ، وكما أنّ أصحاب الخلقان والسّماكين والنّخّاسين والحاكة في كلّ بلد من كلّ جنس، شرار خلق الله في المبايعة والمعاملة. فعلمنا بذلك أنّ ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التّجارات، حين صاروا من بين جميع الناس كذلك.
قال: ورأينا التركيّ في بلاده ليس يقاتل على دين ولا على تأويل، ولا على ملك ولا على خراج، ولا على عصبيّة ولا على غيرة دون الحرمة والمحرم، ولا على حميّة ولا على عداوة، ولا على وطن ومنع دار ولا مال؛ وإنّما يقاتل على السّلب والخيار في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذرا. وكذلك هم في بلادهم وغاراتهم وحروبهم. وهو الطالب غير المطلوب؛ ومن كان كذلك فإنّما يأخذ العفو من قوّته، ولا يحتاج إلى [مجهوده] . ثم هو مع ذلك لا يقوم له شيء ولا يطمع فيه أحد، فما ظنّك بمن هذه صفته أن لو اضطرّه إحراج أو غيره أو غضب أو تديّن، أو عرض له بعض ما يصحب المقاتل المحامى من العلل والأسباب.
قال: وقناة الخارجيّ طويلة صمّاء، وقناة التّركيّ مطرد أجوف. والقنيّ المجوّفة القصار أشدّ طعنة وأخفّ في المحمل. والعجم تجعل القنيّ الطّوال للرّجّالة، وهي قنيّ الأبناء، على أبواب الخنادق والمضايق. والأبناء في هذا الباب لا يجرون مع الأتراك والخراسانيّة؛ لأنّ الغالب على الأبناء المطاعنة على أبواب الخنادق وفي المضايق، وهؤلاء أصحاب الخيل والفرسان وعلى الخيل والفرسان تدور الجيوش، لهم الكرّ والفرّ. والفارس هو الذي يطوي الجيش طيّ السجلّ، ويفرّقهم تفريق الشعر. وليس يكون الكمين إلّا منهم ولا الطّليعة ولا السّاقة. وهم أصحاب الأيّام المذكورة والحروب الكبار والفتوح العظام، ولا تكون المقانب والكتائب الّا منهم. ومنهم من يحمل البنود والرّايات، والطّبول والتجافيف والاجراس. وهم أصحاب الصّهيل والقتام، وزجر الخيل، وقعقعة الريح في الثّياب والسّلاح ووقع الحوافر، والإدراك إذا طلبوا، والغوث إذا طلبوا. ولم يجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم للفارس سهمين وللراجل من المقاتلة سهما واحدا إلّا لتضاعيف الردّ في القتل والفتوح، والنّهبة والمغانم.
ثم قال: ولعمري إنّ للأبناء من القتال في السّكك والسّجون والمضايق ما ليس لغيرهم. ولكن الرجّالة أبدا أتباع ومأمورون ومنقادون، وقائد الرّجّالة لا يكون [إلّا] فارسا، وقائد الفرسان من الممتنع أن يكون راجلا.
ومن تعوّد الطّعان والضّرب والرمي راكبا إن اضطرّ الى الطّعن والضّرب والرمي راجلا كان على ذاك أدفع عن نفسه، وأردّ عن أصحابه، من الراجل إذا احتاج أن يستعمل سلاحه فارسا. وعلى أنّه ما أكثر ما ينزلون ويقاتلون.
وقد قال الشاعر:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النّزولا
وقال الضّبيّ:
وعلام أركبه إذا لم أنزل
وقال آخر:
فمعانق ومنازل
وقال حميد: وليس في الأرض قوم إلّا والتّساند في الحروب، والاشتراك في الرّياسة ضارّ لهم، إلّا الأتراك. على أنّ الأتراك لا يتساندون ولا يتشاركون؛ وذلك أنّ الذي يكره من المساندة والمشاركة اختلاف الرأي، والتنافس في السّرّ، والتحاسد بين الأشكال، والتواكل فيما بين المشتركين.
والأتراك إذا صافّوا جيشا إن كان في القوم موضع عورة فكلهم قد أبصرها وعرفها؛ وإن لم تكن هناك عورة ولم يكن فيهم مطمع، وكان الرأي الانصراف، فكلّهم قد رأى ذلك الرأي وعرف الصواب فيه. وخواطرهم واحدة، ودواعيهم مستوية بإقبالهم معا. وليس هم أصحاب تأويلات ولا أصحاب تفاخر وتناشد، وإنّما شأنهم إحكام أمرهم؛ فالاختلاف يقلّ بينهم.
وكانت الفرس تعيب العرب إذا خرجوا إلى الحرب متساندين، وكانت تقول: الاشتراك في الحرب وفي الزّوجة وفي الإمرة سواء.
وقال حميد: فما ظنّك بقوم إذا تساندوا لم يضرّهم التّساند، فكيف يكونون إذا تحاسدوا.
فلما انتهى الخبر إلى المأمون قال: ليست بالتّرك حاجة الى حكم حاكم بعد حميد؛ فإنّ حميدا قد مارس الفريقين، وحميد خراسانيّ وحميد عربيّ، فليس للتّهمة عليه طريق.
قالوا: وأتى الخبر ذا اليمينين طاهر بن الحسين فقال: ما أحسن ما قال حميد. أما إنه لم يقصّر ولم يفرّط.
فهذا قول الخليفة المأمون، وحكم حميد، وتصويب طاهر.
وخبّرني رجل من أهل خراسان أو من بني سدوس قال: سمعت أبا البطّ يقول: ويلكم، كيف أصنع بفارس يملأ فروج دابّته منحدرا من جبل، أو مصعدا في مقطع عقير، ويمكنه على ظهر الفرس ما لا يمكن الرّقّاص الأبلّيّ على ظهر الأرض.
قال: وقال سعيد بن عقبة بن سلم الهنائيّ، وكان ذا رأي في الحرب وابن ذي رأي فيها: فرق ما بيننا وبين التّرك أن التّرك لم تغز قوما قطّ، ولا صافّت جيشا ولا هجمت على عدوّ كانوا عربا أو عجما، فأخرجوا إليهم أعدادهم ولقوهم بمثلهم. وليس غايتهم إلّا أن ينقادوا ليكفّوا عنهم بأسهم ومعرّتهم، ويصرفوا عنهم كيدهم. فإن هم امتنعوا من الصّلح واعتزموا إلى الحرب فليس شأنهم والذي يدور عليه أمرهم إلّا منع أنفسهم وتحصين عسكرهم، والاحتراس منهم. فأمّا أن ترقى هممهم وتسمو أنفسهم إلى الاحتيال عليهم، والتماس غرّتهم، فإنّ هذا شيء لا يخطر على بال من يحاربهم.
ثم قال: وقد عرفتم حيلهم في دخول المدن من جهة حيطانها المصمتة العريضة، وحيلتهم في عبور نهر بلخ.
وسعيد هذا هو الذي قال: إذا حاربتم وكنتم ثلاثة فاجعلوا واحدا مددا، وآخر كمينا. وله كلام في الحرب غير هذا كثير.
قال سعيد: وأخبرني أبي قال: شهدت أبا الخطّاب يزيد بن قتادة بن دعامة الفقيه، وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التّرك حيث قال:
«عدوّ شديد طلبه، قليل سلبه» ، فقال رجل من العالية: نهى عمر أبا زبيد الطائيّ عن وصف الأسد، لأن ذلك مما يزيد في رعب الجبان، وفي هول الجنان، ويقلّ من رغب الشّجاع، وقد وصف التّرك بأشدّ من وصف أبي زبيد الأسد.
وقال سعيد في حديثه يومئذ، وقد قطعت شرذمة منهم بلاد أبي خزيمة- يريد حمزة بن أدرك الخارجيّ- وما والى خراسان [في] بعض الأمر، وحمزة في معظم الناس، فقال لأصحابه: أفرجوا لهم ما تركوكم، ولا تتعرّضوا لهم؛ فإنّه قد قيل: «تاركوهم ما تاركوكم» .
فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه؛ وهو عربيّ خراساني وذكر يزيد بن مزيد الوقعة التي قتل فيها يولبا التركيّ الوليد بن طريف الخارجيّ، فقال في بعض ما يصف من شأن التّرك: ليس لبدن التّركي على ظهر الدابّة ثقل، ولا لمشيه على الأرض وقع، وإنّه ليرى وهو مدبر ما لا يرى الفارس منّا وهو مقبل. وهو يرى الفارس منا صيدا ويعدّ نفسه فهدا، ويعدّه ظبيا ويعدّ نفسه كلبا. والله لو رمي به في قعر بئر مكتوفا لما أعجزته الحيلة؟ ولولا أنّ أعمار عامّتهم تقصر دون الجبل- يعني جبل حلوان- ثم همّوا بنا، لألقوا لنا شغلا طويلا.
وأنشد رجل من أصحابه:
هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى زوال
قال: أمّا التّركي فلأن ينال الكفاف غصبا أحبّ إليه من أن ينال الملك عفوا. ولم يتهنّ تركيّ بطعام إلّا أن يكون صيدا أو مغنما، ولا يعزّ على ظهر دابّته طالبا كان أو مطلوبا.
وقال ثمامة بن أشرس، وكان مثل محمّد بن الجهم في كثرة ذكره للتّرك.
قال ثمامة: التركيّ لا يخاف إلّا مخوفا ولا يطمع في غير مطمع، ولا يكفّه عن الطّلب إلّا اليأس صرفا، ولا يدع القليل حتّى يصيب أكثر منه، وان قدر أن يجمعها لم يفرّط في واحد منهما. والباب الذي لا يحسنه لا يحسن منه شيئا، والباب الذي يحسنه قد أحكمه بأسره وأمرّه وخفيّه عنده كظاهره، ولا يتشاغل بشيء ليس فيه شيء، ولا على نفسه من شيء. فلولا أن يجمّ نفسه بالنّوم لما نام، على إنّ نومه مشوب باليقظة، ويقظته سليمة من الوسنة. ولو كان في شقّهم أنبياء، وفي أرضهم حكماء، وكانت هذه الخواطر قد مرّت على قلوبهم، وقرعت أسماعهم، لأنسوك أدب البصريّين، وحكمة اليونانيّين، وصنعة أهل الصّين.
وقال ثمامة: عرض لنا في طريق خراسان تركيّ ومعنا قائد يصول بنفسه ورجاله، وبيننا وبين التركيّ واد، فسأله أن يبارزه فارس من القوم، فأخرج له رجلا لم أر قطّ أكمل منه، ولا أحسن تماما وقواما منه، فاحتال حتّى عبر إليهم الفارس، فتجاولا ساعة، ولا نظنّ إلّا أنّ صاحبنا يفي بأضعافه، وهو في ذلك يتباعد عنّا. فبينا هما في ذلك إذ ولّى عنه التّركي كالهارب منه، وفعل ذلك في موضع ظنّنا أنّ صاحبنا قد ظهر عليه، وأتبعه الفارس لا نشكّ إلّا أنّه سيأتينا برأسه، أو يأتينا به مجنوبا إلى فرسه، [فلم نشعر] إلّا وصاحبنا قد أفلت عن فرسه وغاب عنه، فنزل التركيّ إليه فأخذ سلبه وقتله، ثم عارض فرسه فجنبه إليه معه.
قال ثمامة: ثم رأيت بعد ذلك التركيّ قد جيء به أسيرا إلى دار الفضل ابن سهل، فقلت له: كيف صنعت يومئذ، وكيف طاولته ثمّ علاك ثم وليت عنه هاربا ثم قتلته؟ قال: أما إنّي لو شئت أن أقتله حين عبر؛ وقد كان مقتله بارزا لي، ولكنّي احتلت عليه حتّى نحّيته عن أصحابه لأجوّزه، فلا يحال بيني وبين فرسه وسلبه.
قال ثمامة: وإذا هو يدير الفارس من سائر الناس ويريغه كيف شاء وأحب.
قال ثمامة: وقد غبرت في أيديهم أسيرا فما رأيت كإكرامهم وتحفهم وألطافهم.
فهذا ثمامة بن أشرس، وهو عربيّ لا يتّهم في الإخبار عنهم.
وأنا أخبرك أنّي قد رأيت منهم شيئا عجيبا وأمرا غريبا: رأيت في بعض غزوات المأمون سماطي خيل على جنبتي الطّريق بقرب المنزل، مائة فارس من الأتراك في الجانب الأيمن، ومائة من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيء المأمون، وقد انتصف النّهار واشتدّ الحر. فورد عليهم وجمع الأتراك جلوس على ظهور خيولهم إلّا ثلاثة أو أربعة، وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم الى الأرض إلّا ثلاثة أو أربعة. فقلت لصاحب لي: انظر أيّ شيء اتّفق لنا. أشهد أنّ المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم.
وأردت مرة القاطول- وهي المباركة- وأنا خارج من بغداد، وأرى فوارس من أهل خراسان والأبناء وغيرهم من أصناف الجند، قد عار لهم فرس، وهم على خيل عتاق يريغونه فلا يقدرون على أخذه، ومرّ تركيّ ولم يكن من ذوي هيئاتهم وذوي القدر منهم، وهو على برذون له خسيس، وهم على الخيول المطهّمة، فاعترض الفرس اعتراضا، وقتله قتلا وحيّا؛ وأتاه من زجره بشيء، فوقف أولئك الجند وصاروا نظّارة، فقال بعضهم ممن كان يزري على ذلك التركيّ: هذا وأبيك التكلّف والتعرّض: أنّ فرسا قد أعجزهم وهم أسد البلاد، وجاء هذا مع قصر قامته وضعف دابّته، فطمع أن يأخذه. فما انقضى كلامه حتّى أقبل به ثمّ سلّمه إليهم ومضى لطلبته، لم ينتظر ثناءهم ولا دعاءهم، ولا أراهم أنّه قد صنع شيئا، أو أتى إليهم معروفا.
والأتراك قوم لا يعرفون الملق ولا الخلابة، ولا النّفاق ولا السّعاية، ولا التصنّع ولا النّميمة ولا الرّياء، ولا البذخ على الأولياء، ولا البغي على الخلطاء، ولا يعرفون البدع، ولم تفسدهم الأهواء، ولا يستحلّون الأموال على التأوّل، وإنما كان عيبهم، والذي يوحش منهم، الحنين إلى الأوطان، وحبّ التقلّب في البلدان، والصّبابة بالغارات، والشّغف بالنّهب، وشدّة الإلف للعادة، مع ما كانوا يتذاكرون من سرور الظفر وتتابعه، وحلاوة المغنم وكثرته، وملاعبهم في تلك الصّحاري، وتردّدهم في تلك المروج، وألّا يذهب بطول الفراغ فضل نجدتهم باطلا، ويصير حدّهم على طول الأيام كليلا.
ومن حذق شيئا لم يصبر عنه، ومن كره أمرا فرّ منه.
.. وإنّما خصّوا بالحنين من بين جميع العجم لأنّ في تركيبهم وأخلاط طبائعهم من تركيب بلدهم وتربيتهم، ومشاكلة مياههم ومناسبة إخوانهم، ما ليس مع أحد سواهم، ألا ترى أنّك ترى البصريّ فلا تدري أبصريّ هو أم كوفيّ، وترى المكّيّ فلا تدري أمكّيّ هو أم مدنيّ. وترى الجبليّ فلا تدري أجبليّ هو أم خراسانيّ، وترى الجزريّ فلا تدري أجزريّ هو أم شاميّ. وأنت لا تغلط في التركيّ، ولا تحتاج فيه إلى قيافة ولا إلى فراسة، ولا إلى مساءلة. ونساؤهم كرجالهم، ودوابّهم تركيّة مثلهم.
وهكذا طبع الله تلك البلدة، وقسم لتلك التّربة. وجميع دور الدنيا ونشوّها إلى منتهى قواها ومدّة أجلها، جارية على عللها، وعلى مقدار أسبابها، على قدر ما خصّها الله تعالى به وأبانها، وجعل فيها. فإذا صاروا إلى دار الجزاء، فهي كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً.
وكذلك ترى أبناء العرب والأعراب الذين نزلوا خراسان، لا تفصل بين من نزل أبوه بفرغانة وبين أهل فرغانة، ولا ترى بينهم فرقا في السّبال الصّهب والجلود القشرة، والأقفاء العظيمة، والاكسية الفرغانية. وكذلك جميع تلك الارباع، لا تفصل بين أبناء النازلة وبين أبناء النّابتة.
ومحبّة الوطن شيء شامل لجميع الناس، وغالب على جميع الجيرة. ولكن ذاك في التّرك أغلب، وفيها أرسخ؛ لما معها من خاصّة المشاكلة والمناسبة، واستواء الشّبه، وتكافي التركيب. ألا ترى أنّ العبديّ يقول: «عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان» ، وأنّ ابن الزّبير قال: «ليس الناس بشيء من اقسامهم أقنع منهم بأوطانهم» ، وأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«لولا تفرّق أهواء العباد لما عمّر الله البلاد» ، وأنّ جمعة الإياديّة قالت: «لولا ما أوصى الله به العباد من قفر البلاد، لما وسعهم واد ولا كفاهم زاد» .
وذكر قتيبة بن مسلم التّرك فقال: «هم والله أحنّ من الإبل المعقّلة إلى أوطانها» ؛ لأنّ البعير يحنّ إلى وطنه وعطنه، وهو بعمان، من ظهر البصرة، فهو يخبط كلّ شيء ويستبطن كلّ واد، حتّى يأتي مكانه؛ على أنّه طريق لم يسلكه إلّا مرة واحدة، فلا يزال بالشّمّ والاسترواح وحسن الاستدلال، وبالطبيعة المخصوص بها حتّى يأتي مبركه، على بعد ما بين عمان والبصرة.
فلذلك ضرب به قتيبة المثل.
والشّحّ على الوطن [والحنين إليه] ، والصّبابة به، مذكورة في القرآن، مخطوطة في [الصّحف بين] جميع الناس. غير أنّ التركيّ للعلل التي ذكرناها أشدّ حنينا وأكثر نزوعا.
وباب آخر، ممّا كان يدعوهم الى الرجوع قبل العزم الثابت، والعادة المنقوضة: وذلك أنّ التّرك قوم يشتدّ عليهم الحصر [والجثوم] ، وطول اللّبث والمكث، وقلّة التصرّف والتحرّك، وأصل بنيتهم إنّما وضع على الحركة، وليس للسكون فيها نصيب، وفي قوى أنفسهم فضل على قوى أبدانهم، وهم أصحاب توقّد وحرارة واشتعال وفطنة، كثيرة خواطرهم، سريع لحظهم، وكانوا يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلادة، والراحة عقلة، والقناعة من قصر الهمّة؛ وأنّ ترك الغزو يورث الذّلّة.
وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهب الراسبيّ: «حب الهوينا يكسب النّصب» . والعرب تقول: «من غلا دماغه في الصّيف غلت قدره في الشّتاء» . وقال أكثم بن صيفيّ: «ما أحبّ أنّي مكفيّ كلّ أمر الدنيا» . قيل: ولم؟ قال: «أخاف العجز» .
فهذه كانت علل التّرك في حبّ الرّجوع والحنين إلى الوطن.
ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشّرود ويبعثهم على الرجوع، ويكرّه عندهم المقام، ما كانوا فيه من جهل قوّادهم بأقدارهم، وقلّة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع الرّد عليهم والانفتاع بهم، حتّى جعلوهم أسوة أجنادهم، ولم يقنعوا أن يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامّة ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أنّ الضّيم لا يليق بهم؛ وأنّ الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لا يعرف حقّهم ألوم ممّن منعهم حقّهم، فلمّا صادفوا ملكا حكيما، وبأقدار النّاس عليما، لا يميل إلى [سوء] عادة ولا يجنح إلى هوى، ولا يتعصّب لبلد على بلد؛ يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحقّ حيثما أقام، أقاموا إقامة من قد فهم الحظّ، ودان بالحقّ ونبذ العادة، وآثر الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمامة على ملك الجبريّة، واختار الصّواب على الإلف.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)