المنشورات
مقارنة الأمم
ثم اعلم بعد هذا كلّه أنّ كلّ أمة وقرن، وكلّ جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصّناعات، وفضلوا النّاس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنّك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلّا أن يكون الله قد سخّرهم لذلك المعنى بالأسباب، [وقصرهم] عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاين؛ لأنّ من كان متقسّم الهوى، مشترك الرّأي، ومتشعّب النفس، غير مؤفّر على ذلك الشّيء ولا مهيّأ له، لم يحذق من تلك الأشياء [شيئا] بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيّين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أنّ اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجّارا ولا صنّاعا بأكفّهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة وبناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع، وحرص وكدّ، وكانت الملوك تفرّغهم، وتجرى عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة، وقوّة وافرة، وأذهان فارغة، حتّى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماما للنّفس، وراحة بعد الكدّ، وسرورا يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرصطونات، والقبّانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات، والكالكونيا والكشيزان والبركار وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطبّ والحساب والهندسة واللّحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرّادات، والرّتيلات، والدّبّابات، وآلة النّفّاط، وغير ذلك ممّا يطول ذكره.
وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة؛ يصوّرون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسّونها، ويرغّبون في العلم ويرغبون عن العمل.
فأمّا سكّان الصين فهم أصحاب السّبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنّحت والتصاوير، والنّسخ والخطّ، ورفق الكفّ في كلّ شيء يتولّونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه.
واليونانيون يعرفون الفلك، لأنّ أولئك حكماء وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب، لم يكونوا تجّارا ولا صنّاعا، ولا أطبّاء ولا حسّابا، ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم من صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، [ولا عرفوا الدّوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة] ، ولم يستغنوا الغنى الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الغرّة، ولم يحتملوا ذلّا قطّ فيميت قلوبهم ويصغّر عندهم أنفسم. وكانوا سكان فياف وتربية العراء، ولا يعرفون الغمق ولا اللنق، ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن، ولا التّخم. أذهان جداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدّهم ووجّهوا قواهم لقول الشّعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النّسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرّف الأنواء، والبصر بالخيل والسّلاح وآلة الحرب، والحفظ لكلّ مسموع والاعتبار بكلّ محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كلّ أمنيّة. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيّامهم أحفظ وأذكر.
وكذلك التّرك أصحاب عمد وسكّان فياف وأرباب مواش، وهم أعراب العجم كما أنّ هذيلا أكراد العرب. فحين لم تشغلهم الصّناعات والتّجارات، والطّبّ والفلاحة والهندسة؛ ولا غرس ولا بنيان، ولا شقّ أنهار، ولا جباية غلّات، ولم يكن همّهم غير الغزو والغارة والصّيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخّرة ومقصورة عليها، وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، و] صار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، [ولذّتهم] وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
فلمّا كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصّين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزّلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة.
ومما يستدلّ به على أنّهم قد استقصوا هذا الباب واستغرقوه، وبلغوا أقصى غايته وتعرّفوه، أنّ السّيف إلى أن يتقلّده متقلّد، أو يضرب به ضارب، قد مرّ على أيد كثيرة، وعلى طبقات من الصّنّاع، كلّ واحد منهم لا يعمل عمل صاحبه، ولا يحسنه ولا يدّعيه ولا يتكلّفه، لأنّ الذي يذيب حديد السّيف ويطبعه، ويصفّيه ويهذّبه، غير الذي يمدّه ويمطله؛ والذي يمدّه ويمطله غير الذي يطبعه ويسوّي متنه، ويقيم خشيبته؛ والذي يطبعه ويسوّي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يرهفه غير الذي ي يركّب قبيعته ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السّيلان و [شاربي] القبيعة ونصل السيف غير الذي ينحت خشب غمده، والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحلّيه، والذي يحلّيه ويركّب نعله غير الذي يخرز حمائله.
وكذلك السّرج، وحالات السّهم والجعبة والرّمح وجميع السلاح، مما هو جارح أو جنّة.
والتركيّ يعمل هذا كلّه لنفسه من ابتدائه الى غايته، فلا يستعين برفيق، ولا يفزع فيه إلى صديق، ولا يختلف إلى صانع، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبغرم كرائه.
وحين بلغ أوس بن حجر صفة القانص، وبلغ له الغاية في جمعه لأبواب الكفاية بنفسه، قال:
قصيّ مبيت اللّيل للصّيد مطعم ... لأسهمه غار وبار وراصف
وليس أنه ليس في الأرض تركيّ إلّا وهو كما وصفنا، كما أنّه ليس كل يونانيّ حكيما ولا كل صينيّ غاية في الحذق، ولا كلّ أعرابيّ شاعرا قائفا، ولكنّ هذه الأمور في هؤلاء أعمّ وأتمّ، وهي فيهم أظهر وأكثر.
قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النّجدة والفروسيّة في التّرك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها انتظموا جميع معاني الحرب، وهي معان تشتمل على مذاهب غريبة، وخصال عجيبة.
فمنها: ما يقضى لأهله بالكرم وببعد الهمّة وطلب الغاية. ومنها: ما يدلّ على الأدب السّديد والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة والبصيرة النافذة. [ألا ترى أنّه ليس بدّ لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر والكتمان، ومن الثقافة] ، وقلّة الغفلة وكثرة التجربة. ولا بدّ من البصر بالخيل والسلاح، [والخبرة] بالرّجال وبالبلاد، والعلم بالمكان والزّمان والمكايد، وبما فيه صلاح هذه الأمور كلّها.
والملك يحتاج إلى أواخ شداد وأسباب متان، ومن أتمّها سببا وأعمقها نفعا ما ثبّته في نصابه، وأقرّه وسكّنه في قراره، وزاد في تمكّنه وبهائه، وقطع أسباب المطمعة فيه، ومنع أيدي البغاة من الأشارة اليه فضلا عن البسط عليه.
قال: ثم إنّ التّرك عطفت على العرب بالمحاجّة والمقايسة، وقالوا: قلتم إن تكن القرابة مما يستحقّ بالكفاية فنحن أقدم في الطّاعة والودّ والمناصحة، وإن تكن تستحقّ بالقرابة فنحن أقرب قرابة.
قالوا: والعرب بعد هذا صنفان: عدنان وقحطان. فأمّا القحطانيّ فنسبتنا إلى الخلفاء أقرب من نسبتهم، ونحن أمسّ بهم رحما؛ لأن الخليفة من ولد اسماعيل بن ابراهيم، دون قحطان وعابر. وولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، وأمّه هاجر، وهي قبطيّة. وإسحاق وأمّه سارة وهي سريانيّة.
والستّة الباقون أمّهم قطورا بنت مفطون عربيّة، من العرب العاربة.
وفي قول القحطانية: إنّ أمّنا أشرف في الحسب إذ كانت عربية. وأربعة من الستّة هم الذين وقعوا بخراسان، فأولدوا ترك خراسان. فهذا قولنا للقحطانيّ.
وأما قولنا للعدنانيّ، فإبراهيم أبونا، وإسماعيل عمّنا، وقرابتنا من إسماعيل كقرابتهم.
قال الهيثم بن عديّ: قيل لمبارك التّركي، وعنده حمّاد التركي: إنّكم من مذحج. قال: ومذحج هذا من هو ذاك؟ وما نعرف إلّا إبراهيم خليل الله وأمير المؤمنين.
قال الهيثم: وقد كان سقط إلى بلاد الترك رجل من مذحج فأنسل نسلا كثيرا، ولذلك قال شاعر الشّعوبية للعرب في قصيدة طويلة:
زعمتم بأنّ الترك أبناء مذحج ... وبينكم قربى وبين البرابر
وذلكم نسل ابن ضبّة باسل ... وصوفان أنسال كثير الجرائر
وقال آخر:
متى كانت الأتراك أبناء مذحج ... ألا إنّ في الدنيا عجيبا لمن عجب
وقد سمعتم ما جاء في سدّ بني قطورا وشأن خيولهم بنخل السّواد، وإنّما كان الحديث على وجه التّهويل والتخويف بهم لجميع الناس، فصاروا للإسلام مادّة [و] جندا كثيفا، وللخلفاء وقاية وموئلا وجنّة حصينة، وشعارا دون الدّثار.
وفي المأثور من الخبر: «تاركوا التّرك ما تاركوكم» . وهذه وصيّة لجميع العرب؛ فإنّ الرأي متاركتنا ومسالمتنا. وما ظنّكم بقوم لم يعرض لهم ذو القرنين. وبقوله «اتركوهم» سمّوا التّرك. هذا بعد أن غلب على جميع الأرض غلبة وقسرا، وعنوة وقهرا.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «هذا عدوّ شديد كلبه، قليل سلبه» . فنهى كما ترى عن التعرّض لهم؛ بأحسن كناية.
والعرب إذا ضربت المثل في العداوة الشديدة قالوا: ما هم إلّا التّرك والدّيلم.
قال عملس بن عقيل بن علفة:
تبدّلت منه بعد ما شاب مفرقي ... عداوة تركيّ وبغض أبي حسل
وأبو حسل هو الضّبّ. والعرب تقول: «هو أعقّ من ضبّ» : لأنّه يأكل أولاده.
ولم يرعب قلوب أجناد العرب مثل التّرك. وقال خلف الأحمر:
كأنّي حين أرهنهم بنيّي ... دفعتهم إلى صهب السّبال
قال: وإياهم عنى أوس بن حجر:
نكّبتها ماءهم لما رأيتهم ... شهب السّبال بأيديهم بيازير
وحدثني ابراهيم بن السّندي مولى أمير المؤمنين، وكان عالما بالدّولة، شديد الحبّ لأبناء الدّعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيّامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم، ويدرسهم منقابهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أردّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيف شهير، وسنان طرير، لكان ذلك قولا ومذهبا.
قال: حدّثني عبد الملك بن صالح، عن أبيه صالح بن علي، أنّ خاقان ملك الترك واقف مرة الجنيد بن عبد الرحمن أمير خراسان، وقد كان الجنيد هاله أمره، وأفزعه شأنه، وتعاظمه جموعه وجمعه، وبعل به، وفطن به خاقان وعرف ما قد وقع فيه، فأرسل اليه:
«إنّي لم أقف هذا الموقف وأمسك هذا الإمساك وأنا أريد مكروها، فلا ترع. ولو كنت أريد غلبة أو مكروها لقد كنت انتسفت عسكرك انتسافا أعجلك فيه عن الرويّة وقد أبصرت موضع العورة. ولولا أن تعرف هذه المكيدة فتعود بها على غيري من الأتراك، لعرّفتك موضع الانتشار والخلل والخطأ في عسكرك وتعبيتك. وقد بلغني أنّك رجل عاقل، وأنّ لك شرفا في بيتك وفضلا في نفسك، وعلما بدينك، وقد أحببت أن أسأل عن شيء من أحكامكم لأعرف به مذهبكم، فاخرج إليّ في خاصّتك لأخرج إليك وحدي، وأسائلك عما أحتاج إليه بنفسي. ولا تحتفل ولا تحترس؛ فليس مثلي من غدر، وليس مثلي يؤمن من نفسه، ومن مكره وكيده، ثم ينكث بوعده. ونحن قوم لا نخدع بالعمل، ولا نستحسن الخديعة إلّا في الحرب، ولو استقام أمر الحرب بغير خديعة لما جوّزنا ذلك لأنفسنا» .
فأبى الجنيد أن يخرج اليه إلّا وحده، ففصلا من الصّوف. وقال: سل عمّا أحببت، فإن كان عندي جواب أرضاه أجبتك، وإلّا أشرت عليك بمن هو أبصر بذلك منّي.
قال: ما حكمكم في الزّاني؟
قال الجنيد: الزّاني عندنا رجلان: رجل دفعنا إليه امرأة تغنيه عن حرم النّاس، وتكفّه عن حرم الجيران؛ ورجل لم نعطه ذلك، ولم نحل بينه وبين أن يفعل ذلك لنفسه. فأمّا الذي لا زوجة له فإنّا نجلده مائة جلدة ونحضر ذلك الجماعة من الناس لنشهّره ونحذّره به، ونغرّبه في البلدان لنزيد في شهرته وفي التّحذير منه، ولينزجر بذلك كلّ من كان يهمّ بمثل عمله. فأما الذي قد [أغنيناه] فإنا نرجمه بالجندل حتّى نقتله.
قال: حسن جميل، وتدبير كبير، فما قولكم في الذي يقذف عفيفا بالزّنى؟
قال: يجلد ثمانين جلدة، ولا نقبل له شهادة، ولا نصدّق له حديثا.
قال: حسن جميل، وتدبير كبير، فما حكمكم في السارق؟
قال: السّارق عندنا رجلان: رجل يحتال لما قد أحرزه الناس من أموالهم حتّى يأخذها بنقب حيطانهم وبالتسلّق من أعالي دورهم؛ فهذا نقطع يده التي سرق بها، ونقب بها، واعتمد عليها. ورجل آخر يخيف السبيل، وبقطع الطّريق، ويكايد على الأموال، ويشهر السّلاح فإن منعه صاحب المتاع قتله، فهذا نقتله ونصلبه على المناهج والطّرق.
قال: حسن جميل، وتدبير كبير. قال: فما حكمكم في الغاصب والمستلب؟
قال: كلّ ما فيه الشّبهة ويجوز فيه الغلط والوجوه، كالغصب والاستلاب، والجناية، والسّرقة لما يؤكل أو يشرب فإنا لا نقطع فيما فيه شبهة ونتمحّل لذلك وجها غير السّرقة.
قال: حسن جميل وتدبير كبير. قال: فما حكمحم في القاتل وقاطع الأذن والأنف؟
قال: النّفس بالنّفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف. وإن قتل رجلا عشرة قتلناهم. ونقتل القويّ البدن بالضّعيف البدن، وكذلك اليد والرّجل.
قال: حسن جميل وتدبير كبير. قال: فما تقولون في الكذّاب والنّمّام والضّراط.
قال: عندنا فيهم الإقصاء لهم وإبعادهم وإهانتهم، ولا نقبل شهادتهم، ولا نصدّق أحكامهم.
قال: وليس إلّا هذا؟
قال: هذا جوابنا على ديننا.
قال له: أمّا النمام عندي، هو الذي يضرّب بين الناس، فإنّي أحبسه في مكان لا يرى فيه أحدا. وأمّا الضّرّاط فإنّي أكوي استه، وأعاقب ذلك المكان فيه. وأمّا الكذّاب فإنّي أقطع الجارحة التي بها يكذب، كما قطعتم اليد التي بها يسرق، وأمّا الذي يضحك الناس ويعوّدهم السّخف فإنّي أخرجه من سلطاني، وأصلح بإخراجه عقول رعيتي.
قال: فقال الجنيد بن عبد الرحمن: أنتم قوم تردّون أحكامكم إلى جواز العقول، وإلى ما يحسن في ظاهر الرأي؛ ونحن قوم نتبع الأنبياء، ونرى أن لم نصلح على تدبير العباد. وذلك أنّ الله تعالى أعلم بغيب المصالح وسرّ الأمر وحقائقه، ومحصوله وعواقبه، والناس لا يعلمون ولا يرون الحزم إلّا على ظاهر الأمور. وكم من مضيع يسلم، وحازم يعطب.
قال: ما قلت كلاما أشرف من هذا، ولقد ألقيت لي فكرا طويلا.
قال إبراهيم: قال عبد الملك: قال صالح: قال الجنيد: فلم أر أوفى ولا أنصف ولا أفهم ولا أذكى منه. ولقد واقفته ثلاث ساعات من النهار وما تحرّك منه شيء إلّا لسانه، وما منّي شيء لم أحرّكه.
وهكذا يصفون ملوك التّرك، يزعمون أنّ ساسان وخاقان الأكبر، تواقفا ببعض الكسور، وفصلا من الصّفّين، وطالت المناجاة، فلما انفتلا قالوا: كان خاقان أركن وآدب، وكان مركب كسرى أركن وآدب، ولم يتحرّك من خاقان إلّا لسانه، وكان برذونه يرفع قائمة ويضع أخرى، وكان مركب كسرى كأنّما صبّ صبّا، وكان كسرى يحرّك رأسه ويشير بيده.
قالوا: ومن الأعاجيب أنّ الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب.
قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أنّ العرب لا تقوم للتّرك، والتّرك لا تقوم للرّوم، والرّوم لا تقوم للعرب.
قال جهم بن صفوان الترمذيّ: قد عرفنا ما كان بين فارس والتّرك من الحرب، حتّى تزوّج كسرى أبرويز، خاتون بنت خاقان، يستميله بذلك الصّهر، ويدفع بأسه عنه. وقد عرفنا الحروب التي كانت بين فارس والرّوم، وكيف تساجلوا الظفر، وبأيّ سبب غرس الزّيتون بالمدائن وسوسا، وبأيّ سبب بنيت الرّوميّة ولم سمّيت بذلك، ولم بنى كسرى على الخليج قبالة قسطنطينيّة النّواويس وبيوت النار. ولكن متى ظهرت الرّوم على ترك خراسان ظهورا مواليا، ضربوا بها المثل إلى آخر دار مسه، ومن هناك من الأشباه، ومن يتخلّل هذا النسب.
وكانت خاتون بنت خاقان عند أبرويز فولدت له شيرويه. وقد ملك شيرويه بعد أبرويز، فتزوّج شيرويه مريم بنت قيصر، فولدت له فيروزا شاهي أمّ يزيد الناقص والوليد. وكان يقول: ولدني أربعة أملاك: كسرى، وخاقان، وقيصر، ومروان. وكان يرتجز في حروبه التي قتل فيها الوليد بن يزيد بن عاتكة:
أنا ابن كسرى وأبي خاقان ... وقيصر جدّي وجدّي مروان
فلما صار إلى الافتخار في شعره بالنّجدة والثّفافة بالحرب، لم يفخر إلّا بخاقان فقط فقال:
فإن كنت أرمي مقبلا ثم مدبرا ... وأطلع من طود زليق على مهر
فخاقان جدّي فاعرفي ذاك واذكري ... أخابيره في السّهل والجبل الوعر
قوله «وأطلع» يريد: وأنزل، وهي لغة أهل الشام وأخذوها من نازلة العرب في أوّل الدهر. وجعل دابّته مهرا، لأنّ ذلك أشدّ وأشقّ.
وقال الفضل بن العبّاس بن رزين: أتانا ذات يوم فرسان من التّرك، فلم يبق أحد ممن كان خارجا إلّا دخل حصنه وأغلق بابه، وأحاطوا بحصن من تلك الحصون، وأبصر فارس منهم شيخا يطّلع إليهم من فوق، فقال له التركيّ:
لئن لم تنزل إليّ لأقتلنّك قتلة ما قتلتها أحدا! قال: فنزل إليه وفتح له الباب، ودخلوا الحصن، واكتسحوا كلّ شيء فيه، فضحك من نزوله إليه وفتحه له وهو في أحصن موضع وأمنع مكان، ثم أقبل به إلى حصن أنا فيه فقال: اشتروه منّي. قلنا: لا حاجة لنا في ذلك. قال: فإنّي أبيعه بدرهم واحد. فرمينا إليه بدرهم فخلّى سبيله، ثمّ أدبر عنا ومضى مع أصحابه، فما لبث إلّا قليلا حتّى عاد إلينا فوقف حيث نسمع كلامه، فراعنا ذلك، فأخرج الدّرهم من فمه وكسره بنصفين. وقال: لا يسوى درهما، وهذا غبن فاحش، فخذوا هذا النّصف، وهو على كلّ حال غال جدّا بالنّصف الآخر.
قال: فإذا هو أظرف الخلق.
قال: وكنّا نعرف ذلك الرجل بالجبن، وقد كان سمع باحتيال التّرك في دخول المدن وعبور الأنهار في الحروب، فتوهّم أنه لم يتوعّد بفتح الباب.
وقال ثمامة: ما شبّهت الذّرّ إلّا بالتّرك؛ لأنّ كلّ ذرّة على حدتها معها من المعرفة بادّخار الطّعم، ومن الشّمّ والاسترواح، ونجب المدّخر حتّى لا ينبت في جحره، ثم الاحتيال للناس في الاحتيال لها بالصّمامة والعفاص والمزدجر، وتعليق الطّعام على الأوتاد والبرّادات، مثل الذّرّ مع صاحبتها.
وقال أبو موسى الأشعري: كل جنس يحتاج الى أمير ورئيس ومدبّر، حتّى الذّرّ.
وروى أبو عمر الضّرير، أن رئيس الذّرّ الرّائد الذي يخرج أوّلا لشيء قد شمّه دون أصحابه، لخصوصيّة خصّه الله تعالى بها، ولطافة الحسّ، فإذا حاول حمله وتعاطى نقله، وأعجزه ذلك بعد أن يبلي عذرا، أتاهنّ فأخبرهنّ فرجع، وخرجت بعده كأنّها خيط أسود ممدود. وليست ذرّة أبدا تستقبل ذرّة أخرى إلّا واقفتها وسارّتها بشيء ثم انصرفت عنها.
وكذلك الأتراك كلّ واحد منهم غير عاجز عن معرفة مصلحة أمره، إلّا أنّ التفاضل واجب في جميع أصناف الأشياء والنّبات والموات. وقد تختلف الجواهر وكلّها كريم، وتتفاضل العتاق وكلّها جواد.
وقد قلنا في مناقب جميع الأصناف بجمل ما انتهى الينا وبلغه علمنا؛ فإن وقع ذلك بالموفقة فبتوفيق الله وصنعه، وإن قصّر دون ذلك فالذي قصّر بنا نقصان علمنا، وقلّة حفظنا وسماعنا. فأمّا حسن النّيّة، والذي نضمر من المحبّة والاجتهاد في القربة، فإنا لا نرجع في ذلك إلى أنفسنا بلائمة. وبين التقصير من جهة التفريط والتّضييع، وبين التقصير من جهة العجز وضعف العزم، فرق.
ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كلّ صنف من هذه الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار فضل نفسه وإن لم يصل إلى ذلك إلّا بإظهار نقص أخيه ووليّه، لكان كتابا كبيرا، كثير الورق عظيما، ولكان العدد الذين يقضون لمؤلّفه بالعلم والاتّساع في المعرفة أكثر وأظهر، ولكنّا رأينا أنّ القليل الذي يجمع خير من الكثير الذي يفرّق.
ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميع قريب، فعّال لما يريد.
تم الكتاب والله المنة، وبيده الحول والقوة والله الموفق للصواب الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)