المنشورات

حب الاخبار

واعلم يقينا أن الصّمت سرمدا أبدا، أسهل مراما- على ما فيه من المشقّة- من إطلاق اللسان بالقول على جهة التحصيل والتمييز، والقصد للصّواب، لما قدّمنا ذكره من علة مجاذبة الطّباع، ولأنّ من طبع الإنسان محبة الإخبار والاستخبار. وبهذه الجبلّة التي جبل عليها الناس نقلت الأخبار عن الماضين الى الباقين، عن الغائب الى الشاهد، وأحبّ الناس أن ينقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصّخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل. وبذلك ثبتت حجّة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء، ولم يحضر آيات الرّسل، وقام مجيء الأخبار عن غير تشاعر ولا تواطؤ مقام العيان، وعرفت البلدان والأقطار والأمم والتجارات والتدبيرات والعلامات، وصار ما ينقله الناس بعضهم عن بعض ذريعة الى قبول الإخبار عن الرسل، وسلّما الى التصديق، وعونا على الرضا بالتقليد.
ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس لما انتقلت الأخبار وحلّت هذا المحلّ. ولكن الله عزّ وجلّ حبّبها إليهم لهذا السبب، كما جعل عشق النّساء داعية للجماع، ولذّة الجماع سبيلا للنّسل، والرّقة على الولد عونا على التربية والحضانة- وبهما كان النشوّ والنماء- وحبّ الطعام والشراب سببا للغذاء، والغذاء سببا للبقاء وعمارة الدنيا.
فعسر على الإنسان الكتمان لإيثار هذه الشهوة، والانقياد لهذه الطبيعة، وكانت مزاولة الجبال الراسيات عن قواعدها أسهل من مجاذبة الطباع. فاعتراه الكرب لكتمان السرّ، وغشيه لذلك سقم وكمد يحسّ به في سويداء قلبه بمثل دبيب النمل، وحكّة الجرب، ومثل لسع الدّبر ووخز الأشافي، على قدر اختلاف مقادير الحلوم والرّزانة والخفّة. فإذا باح بسرّه فكأنه أنشط من عقال.
ولذلك قيل: «الصّدر إذا نفث برأ» مثلا مضروبا لهذه الحال. وقيل:
ولا بدّ من من شكوى إذا لم يكن صبر
وليس قولنا «طبع الإنسان على حبّ الإخبار والاستخبار» حجّة له على الله، لأنّه طبع على حب النّساء ومنع الزّنى، وحبّب إليه الطعام ومنع من الحرام. وكذلك حبّب إليه أن يخبر بالحقّ النافع ويستخبر عنه، وجعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأى.
وممّا يؤكّد هذا المعنى في كرب الكتمان وصعوبته على العقلاء فضلا عن غيرهم، ما رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخبارا مستورة لا يحتملها العوامّ، فضاق صدره بها، فكان يبرز الى العراء فيحتفر بها حفيرا يودعها دنّا، ثم ينكبّ على ذلك الدّنّ فيحدّثه بما سمع، فيروّح عن قلبه، ويرى أن قد نقل سرّه من وعاء الى وعاء.
وكان الأعمش سيّء الخلق غلقا، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحبّ طيّه عنهم، وتكرار ما يحدّثهم به، ويتعنّتونه، فيحلف لا يحدّثهم الشهر والأكثر والأقلّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلّعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاة) كانت له فيحدّثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: «ليت أنّى كنت شاة الأعمش» .
وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سرّه فقال: أكلت الحامض والحلو حتّى ما أجد لهما طعما، وأتيت النساء حتى ما أبالى أمرأة لقيت أم حائطا، فما بقيت لي لذّة إلّا وجود أخ أضع بيني وبينه مؤونة التحفّظ.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا. ففعل، فقال: اللّذّة طرح المروءة.
وقد صدق عمرو، ما تكون الزّماتة والوقار إلا بحمل على النفس شديد، ورياضة متعبة.
وقال بعض الشعراء:
ألم تر أنّ وشاة الرجال ... لا يتركون أديما صحيحا
فلا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید