المنشورات

مساوىء إفشاء السر

والسرّ- أبقاك الله- إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة فليس حينئذ بسرّ، بل ذاك أولى بالإذاعة، ومفتاح النّشر والهرة. وإنّما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع الى أذن ثانية. وهو مع قلّة المأمونين عليه، وكرب الكتمان، حريّ بالانتقال إليها في طرفة عين. 
وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه اسرع، وبه أسخى وفي الحديث به أعذر، والحجّة عنه أدحض.
ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث أبدا الى حيث انتهى.
هذا أيضا إذا استعهد المحدّث واستكتم، وكان عاقلا حليما، وناصحا وادا، فكيف إذا أخبر ولم يؤمر بالكتمان، وكان ممن يمشى بالنّمائم ويحبّ إفشاء المعايب، وكان ممن ينطوى على غشّ أو شحناء، أو كان له في إظهاره اجتلاب نفع أو دفع ضرر.
فاللّوم إذ ذاك على صاحب السرّ أوجب، وعمّن أفضى به إليه أنزل، لأنه كان مالكا لسرّه فأطلق عقاله، وفتح أقفاله، وسرّحه فأفلت من قيده ووثاقه، وصار هو العبد القنّ المملوك لمن ائتمنه على سرّه، وملّكه رقّ رقبته، فإن شاء أحسن ملكته لحفظ ذلك السّرّ فجزّ ناصيته، وجعله رهينة ليوم عتبه عليه. وقلّ من يحسن الملكة، ويحرس الحرّيّة أو يضبط نفسه، فإنه ربّما لم يخرجه غشّا فأخرجه سخفا وضعفا. وإن أساء الملكة وختر الأمانة فأطلق السرّ واسترعاه من هو أشدّ له إضاعة، فسفك الدم وأزال النعم وكشف المودة وفرّق بين الجميع، وإن كان المضيع لسرّه ألوم. قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
فمن أسوأ حالا، وأخسر مكانا، وأبعد من الحزم، ممن كان حرّا مالكا لنفسه فصيّر نفسه عبدا مملوكا لغيره، مختارا للرّقّ، من غير أسر ولا قسر! والعبيد لم يصبروا على الرقّ إلا بذلّ الأسر والسّباء.
ومن كان سرّه مصونا في قلبه يطلب إليه في الحديث به فأخرجه عن يده، صار هو الطالب الراغب إلى من لا يوجب له طاعة، ولا يفكّر له في عاقبة، ولا يتحرّز له من مصيبة. وكلّما كانت إذاعته لأسراره أكثر كان عدد مواليه أكثر، وشقاؤه بخدمتهم أدوم. فإذا كان أصل السرّ معلوما عند عدّة أو أقلّ من العدّة، فما أعسر استتاره. غير أنّه لا لوم على صاحب الخيانة فيه إذا كان ليس هو الذي أفشاه، ولا من قبله علم.
ولو أنّ أوزن الناس حلما ملك لسانه وحصّن سرّه وقلّل لفظه، ما قدر على أن يملك لحظ عينيه، وسحنة وجهه، وتغيّر لونه، وتبسّمه أو قطوبه، عند ما يجرى بلبّه من ذكر ذلك السرّ، أو يخطر بباله منه، فيبدو في وجهه ومخايله إذا عرّض بذكره، أو سنح له نظير أو مثيل، أو حضر من له فيه سبب- إلّا بعد التصنّع الشديد، والتحفّظ المفرط.
فإذا كان يعرف من هذه الجهات وما أشبهها، ويطّلع عليه بتظنّن المرجّمين، والمتعقّبين للأفعال والأقوال، والنظر في مصادر التدبير ومخايل الأمور، فيفشو من هذه الجهات أكثر مما تفشيه ألسن المذاييع البذر. فكيف إذا أطلق به اللسان، وعوّد إذا عته القلب. والعادة أملك بالأدب.
وربّما أدركه الحدس، وقيّضه الظنّ، فنالت صاحبه فيه خدعة، بأن يذكر له طرف منه، ويوهم أنه قد فشا وشاع، فيصدّق الظنّ فيجعله يقينا، ويفسّر الجملة فيصيّرها تفصيلا، فيهلك نفسه ويوبقها.
وربّ كلام قد ملأ بطون الطّوامير قد عرف جملته وما فيه الضّرر منه، بسحاءة أو طابع، أو لحظة مطّلع في الكتاب، أو حرف تبيّن من ظهره.
فاستيقظ عند هذه الأحوال، واستعمل سوء الظّنّ بجميع الأنام، فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحزم سوء الظنّ» . وقيل لثقيف: بم بلغتم ما بلغتم من الشّرف والسؤدد؟ قالوا: بسوء الظنّ.
فلا تعتمد على رجل في سرّك تحمد عقله دون أن تحمد ودّه ونصحه،فإن الأمر في ذلك كما قال الشاعر:
وما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب
ولقد استحسن الناس من بعض رجال العراق أنّه دخل على عبد الملك ابن مروان فأوقع بالحجّاج عنده وسبّه، فلمّا خرج من عنده خبّر بما كان منه لبعض أصحابه، فلامه وأنّبه وقال: ما يؤمنك أن يخبر أمير المؤمنين عبد الملك الحجاج بما قلت فيه- ومرجعك الى العراق- فيضغنه عليك؟ قال:
كلّا، والله إنّي ما رطلت بيدي قطّ أحدا أرزن منه.
وهذا والله- أبقاك الله- الغلط البيّن، والعذر الملفّق، وتحسين فارط الخطأ، لأنّه ليس كلّ راجح وعاقل بناصح لصاحب السرّ، ولو كان أخوه كذلك كان أمره إليه أهمّ، وشأنه أولى. والأعلى من الناس لا يكلّف الأدنى هذه المؤونة، وإنّما يفعلها الأدنون بالاعلين رغبة ورهبا، وتحسّسا عندهم بحاجتهم إليهم.















مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید