المنشورات

من يذيع الاسرار

وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، و [من] لهم عليهم اليد والسلطان. فالسرّ الذي يودعه خليفة في عامل له يلحقه زينه وشينه، أحرى ألّا يكتمه. وهذا سبيل كل سرّ يستودعه الجلّة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة.
وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيرا، وصاحب سرّك واحدا من ألف.
وليس معنى الحديث أن تعدّ ممن تعرف ألفا وتفضى إلى واحد بسرّك إن لم يكن ذلك الواحد موضعا للأمانة في السرّ. لكنه قيل: رجل يساوي ألف رجل، ورجل لا يساوي رجلا. وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الناس كإبل مائة لا يوجد فيها راحلة» .
فكلّ ذلك يراد به أنّ الفضل قليل والنقص قليل لا على نسب ما يتلقّاه الاجتماع من هذه الأعداد، لأنّا قد نجد الرجل يوزن بالأمّة، ونجد الأمّة لا تساوى قلامه ظفر ذلك الرجل.
فإذا كان من تقع عليه الشّريطة معدوما- سيّما من يوثق بحلمه وعقله، وأمانته ونصحه، ومن لا ضرر عليه ولا نفع له في السّرّ الذي يضمر ولا يحرّم عليه كتمانه، ومن قد وأى على نفسه بالسّرّ والحفظ، فإنه ليس كلّ من ضمّن فلم يضمن ضامنا، ولا من استودع فلم يقبل مستحفظا، ولا من استخلف فلم يخلف خائنا، وإنما يلحقه الحمد والذمّ، والأجر والإثم إذا ضمّن الأمانة ثم خترها- فكأنّ القوم قالوا: لا تودعنّ سرّك أحدا. وإلّا فمتى تجد رجلا فيه الصفة التي وصف بها مسكين الدّارميّ نفسه حيث يقول:
إنّي امرؤ منّى الحياء الذي ترى ... أنوء بأخلاق قليل خداعها
أواخي رجالا لست أطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أنّي جماعها
يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
وقيل لرجل: كيف كتمانك للسّرّ؟ قال: أجعل قلبي له قبرا أدفنه فيه إلى يوم النّشور.
وقال الآخر:
وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق
وهذه صفات موجودة بالأقوال، معدومة بالأفعال. والمغرور من اغترّ بما يعده الواعد منها دون أن يبلو الخبر.
والذي جربناه ووجدناه: أنّ من يفضى إليه بالشيء، يبلغ من إذاعته ونشره ما لا يبلغه الرسول المستحفظ المعنىّ بتبليغ الرسالة، المحمود المجازى على أدائها، حتّى ربّما كان يبلغ في الإذاعة لمن أرادها أن يقصد للبلّاغة من الرجال، المعروف بالنّميمة والتقتيت، فيوهمه أنه قد استحفظه السرّ، فيشيع على لسانه كما يشيع الضوء في الظّلمة.
وهذا فعل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه حين أحبّ أن يشيع إسلامه فقال: من أنمّ أهل مكة؟ قيل له: جميل بن النّحيت. فأتاه فأخبره بإسلامه وسأله ان يكتمه عليه، فلم يمس وبمكّة أحد لم يعلم بإسلام عمر، رضي الله عنه.
ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرّ الاستعهاد له، والتّحذير من نشره، فإنّ النّهى أغرى، لأنّه تكليف مشقّة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظر، والنفس طيّارة متقلّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق.
ولعلّ رجلا لو قيل له: لا تمسح بهذا الجدار- وهو لم يمسحها به قطّ- غري بأن يفعل.
وكذلك ما حدّث به من السرّ فلم يؤمر بستره، لعلّه ألّا يخطر بباله، لأنّه موجود في طبائع الناس الولوع بكلّ ممنوع، والضّجر بكل محصول.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید