المنشورات

كل ممنوع مرغوب

فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع- وإن كان لا ينفعه- أحرص منه على ما أبيح من غير علّة ولا سبب إلّا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولّى عمّن أقبل عليه؟ ولم قالوا: إذا جدّت المسألة جدّ المنع؟ وقال الشاعر:
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرّدّ ولم صار يتمنّى الشّيء وينذر فيه النّذور، ويتقطّع إليه شوقا، فإذا ظفر به صدّ عنه وأخلق عنده؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟
فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لكلّ نفس مبلغا من الوسع لا يمكنها تجاوزه، ولا تتّسع لأكثر منه. فكان معها فيما دون الوسع الفقر وخوف الإخوان، وفيما تجاوزه عزّ الغنى وأمن العدم. وبهذا وبمثله من البخل والحرص استخفّت من احتاج إليها، وأعظمت من استغنى عنها. وجعلها توّاقة مشتاقة، متطرّفة ملّالة، كثيرة النزاع والتقلب، تستحكم عليها الفتنة، ويبلى خيرها [من شرّها] وصبرها من جزعها. ولولا هذه الخلال سقطت المحن، فهي تعظّم القليل بالضّرورة إليه إن كان من أقواتها، أو لشدّة النّزاع والشوق إن كان من طرف شهواتها، فإنّ صنوف الشهوات كثيرة، ولكلّ صنف منها أهل لا يحفلون بما سواه. وتتعجّب من الغريب النادر، ويضحكها البديع الطارىء. إلا أنّه إذا كثر الغريب صار قريبا، وإذا تجاوز المطلوب مقدار وسعها وحاجتها فصار ظهريّا وفضلا استخفّت به وقلّ في أعينها كثيره. وأعظم الأشياء عندها قدرا ما اشتدّ إليه الفقر والحاجة وإن قلّ قدره، وأهونها عليها ما استغني عنه وإن عظم خطره. وجعل لما تتوق إليه واشتاقه مكانا من قواها، له. فإذا امتلأ ذلك المكان سرورا، وقضى ذلك الأرب وطرا مما كا طمح إليه، وروي مما كان ظامئا إليه، انصرف عنه وقلاه، وحال عشقه بغضا، وشوقه ملالا.
والعلّة في ذلك: أنّ الدّنيا دار زوال وملال، ليس في كيانها أن تثبت هي ولا شيء مما فيها على حال واحدة، وإنّما الثّبوت الدائم لدار القرار.
فالسآمة تلحقها في محبوبها، كما يصيب المنتهى من الطعام والشراب والباه، فإنه ليس شيء أبغض إلى من يتناهى فيه إلى غايته، من النّظر إلى ناحيته، فضلا عن ملابسته، إلى وقت عودة السبب الأوّل.
فإذا كانت الطبائع تتشابه، ولكل حاسّة قوة، فإذا امتلأت تلك القوّة من محسوسها لم تجد لها وراءه طعما ولا ريحا، وعاد عليها الضّرر. فبعض النظر يعمى، والصّوت الشديد يصمّ، والرائحة المنتنة تبطل المشمّ، والأطعمة الحارّة المحرقة تبطل حاسّة اللسان.
وتتطرّف كلّ واحدة منها، فبين الطيّب عند من بعد عهده [به] ؛، والجماع والسّماع، وبين من هو مغموس فيه بون بعيد جدا، في الحلاوة وحسن الموقع. كلّ ذلك ما لم يأت المال والعلم، فإنّه كلّما كثر كان أشهى وأعجب، لأنّ قصد النّاس له ليس لطلب مقدار الحاجة وسدّ الخلّة كما يريده أهل القناعة والزّهادة، وإنّما يراد لقمع الحرص، والحرص لا حدّ له ولا نهاية، لأنه سعى لا لحاجة، وإيضاع لا لبغية.
وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ لا بن آدم واديين من ذهب لا بتغى إليهما ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» .
وقال بعض الحكماء:
من كان لا يغنى بما يغنيه ... فكلّ ما في الأرض لا يغنيه
قال الله عزّ وجلّ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا
.. وقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
. وقال الشاعر:
والناس إن شبعت بطونهم ... فعيونهم في ذاك لا تشبع
فأمّا الحديث الذي جاء: «لا يشبع أربع من أربعة: أرض من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وعالم من علم» .. فإنّ العين لا تشبع في الجملة كما لا يشبع الخيشوم من الاستنشاق. فأمّا من صنف مما يراه دون صنف، فإنه يشبع ويروى، ويصدّ ويصدف الى غيره.
وأمّا العلم فإنّه أوسع من أن يحاط به، فمن طلبه لشرفه وفخره فإنه لا حدّ له ولا نهاية، ولم يزدد له طلبا إلّا ازداد فيه رغبة. ومن طلب منه مقدار كفايته وحاجته كفاه منه اليسير. على أنه لا يملك من كثر علمه أن يرى فيه الغنى والكبرياء أيضا. وقد يملّ كما يملّ كلّ شيء. وتملّ العين أيضا منه ومن المال.
وقيل: اثنان منهومان: طالب علم وطالب دنيا. وهذه القضيّة تدلّ على الخروج عن العقل، لأن النّهم تجاوز القدر.
وأمّا الحرص على الممنوع الذي لا ينتفع به، والعجب مما يتعجّب من مثله، فليس من أخلاق العقلاء. وما لم يكن في أخلاقهم فلا نظر فيه ولا قياس عليه، وإنما ذلك فعل من استوحش من الحجّة، وشرد عن علم العلل والأسباب.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید