المنشورات
الغيبة
ولم نر الله جلّ ثناؤه رخّص في اغتياب مؤمن، بل ضرب المثل في الغيبة بأكره ما تكرهه النّفوس، وما تختار منه الموت على الحياة، فقال:
وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ.
واغتياب الناس جميعا خطة جور في الحكم، وسقوط في الّهمة، وسخافة في الرأي، ودناءة في القيمة، وكلفة عريضة، وحسد ونفاسة قد استحوذت على هذا العالم وغلبت على طبائعهم، وتوكّدت لسوء العادة عندهم، ولعلوّ الشرّ على الخير، وكثرة الدّغل والنّغل والحسد في القلوب. فلست ترى منها ناجيا. إمّا ناظر بعين عدل وإنصاف، فهو يرى ما ينكر فيبدو في وجهه ولسانه. وإما ناظر بعين البغضاء والعداوة فهو كثيرا ما يجد من العيوب في عدوّه ما يعينه على التخرّص عليه فيقوّيها ويزيد فيها. وإن عدم الحقّ تقول وقبّح الحسن، وزاد في قبح القبيح.
والحديث كلّه- إلّا ما لا بال به- ذكر النّاس، ولغو وخطل، وهجر وهذاء، وغيبة وهمز ولمز.
وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنيّ، إنّما الإنسان حديث، فإن استطعت ان تكون حديثا حسنا فافعل.
وكلّ سرّ في الأرض إنّما هو خبر عن إنسان، أو طيّ عن إنسان، فله في الغيبة أكثر الحظّ، وجلّها كلفة لا ضرورة، يرى صاحبها أنه قد أهمل محاسبة نفسه، وغفر ذنوبها وألغى عيوبها، وقصد قصد غيره، فتشاغل عمّا يعينه بما لا يعنيه، فأنكر أقواله وأفعاله، وهجر تدبيره، وتعجّب من مقابحه، وجهد نفسه في تفقّد أموره. ليس ذلك عن عناية بصلاحه، ولا محبّة لتقويمه وتهذيبه، ولا أنّه مسيطر عليه ولا محمود عنده على ما عني به من شأنه، بل هو عنده عين المذموم.
وهذا جلّ حديث البشر وشغلهم في الليل والنهار.
قال بعض الحكماء: فضول النظر تدعو الى فضل القول، وفضول الخواطر تبعث على اللهو والخطل.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
29 مايو 2024
تعليقات (0)