المنشورات

راي الحاسد في المحسود

ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنيّا أن يوبّخه على المال فيقول:
جمعه حراما ومنعه أثاما. وألّب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر وقال له: لقد كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمّك، فليس أمثالهم يوصلون، فإنهم لا يشكرون. وإن وجد له خصما اعانه عليه ظلما، وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشّه، أو تفضّل عليه بمعروف كفره، أو دعاه إلى نصرّ خذله، وإن حضر مدحه ذمّه وإن سئل عنه همزه، وإن كانت عنده شهادة كتمها، وإن كانت منه إليه زلّة عظّمها، [وقال: إنّه] يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود.
وإن كان المحسود عالما قال: مبتدع، ولرأيه متّبع، خاطب ليل ومبتغي نيل، لا يدرى ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل. قد أقبل بوجوه النّاس إليه، وما أحمقهم إذ انثالوا عليه. فقبحه الله من عالم ما أعظم بليّته، وأقلّ رعته، وأسوأ طعمته.
وإن كان الحسود ذا دين قال: متصنّع يغزو ليوصى إليه، ويحجّ ليثنى بشيء عليه، ويصوم لتقبل شهادته، ويظهر النّسك ليودع المال بيته، ويقرأ في المسجد ليزوّجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته.
وما لقيت حاسدا قطّ إلّا تبيّن لك مكنونه بتغيّر لونه وتخوّص عينه وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك.
وكان عبد الله بن أبيّ، قبل نفاقه، نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همّته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسّيادة، واذعانهم له بالرّياسة. وما استوجب ذلك إلّا بعدما استجمع له لبّه، وتبيّن لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلا، لمّا أطاق [له] حملا. فلما بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، ورأى هو عزّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شمخ بأنفه فهدم إسلامه لحسده، وأظهر نفاقه. وما صار منافقا حتّى كان حسودا، ولا صار حسودا حتّى صار حقودا. فحمق بعد اللّبّ، وجهل بعد العقل، وتبوّأ النّار بعد الجنّة.
ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه الى الانصار،فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فانا كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنتوّجه. ولو سلم المخذول قلبه في الحسد لكان من الاسلام بمكان ومن السؤدد في ارتفاع، فوضعه الله لحسده واظهر نفاقه ولذلك قال القائل:
طالت على الحاسد احزانه ... فاصفر من كثرة احزانه
دعه فقد اشعلت في جوفه ... ما هاج في حر نيرانه
العيب اشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه
فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید