المنشورات
الحسود لا يستطيع كتمان حسده
فصل منه: وأنا أقول حقا: ما خالط الحسد قلبا إلّا لم يمكنه ضبطه ولا قدر على تسجينه وكتمانه، حتى يتمرّد عليه بظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستمليه، ويستنطقه لظهوره عليه فهو أغلب على صاحبه من السيّد على عبده، ومن السّلطان على رعيّته، ومن الرّجل على زوجته ومن الآسر على أسيره.
وكان ابن الزّبير بالصبر موصوفا، وبالدّهاء معروفا، وبالعقل موسوما، وبالمداراة منهوما، فأظهر بلسانه حسدا كان أضبّ عليه أربعين سنة لبني هاشم، فما اتّسع قلبه لكتمانه، ولا صبر على اكتتامه، لمّا طالت في قلبه طائلته أظهره وأعلنه، مع صبره على المكاره، وحمله نفسه على حتفها، وقلة اكتراثه والتفاته لأحجار المجانيق التي [كانت] تمرّ عليه فتذهب بطائفة من قومه ما يلتفت إليها.
حدّثت بذلك عن عليّ بن مسهر عن الأعمش، عن صالح بن حبّاب، عن سعيد بن جبير قال: قدت ابن عباس حتّى أدخلته على ابن الزّبير، قال:
أنت الذي تؤنّبني؟ قال: نعم، لأنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره طاو» . فقال له ابن الزّبير: لمن قلت ذلك؟ إنّي لأكتم بغضكم أهل البيت مذ أربعين سنة. فحسر ابن عباس عن ذراعيه كأنّهما عسيبا نخل، ثم قال لابن الزبير: نعم فليبلغ ذاك منك، ما عرفتك.
ولقد أجلت الرأي ظهرا لبطن وفكرّت في جوابه لابن عباس أن أجد له معنى سوى الحسد فلم أجده، وكانت وخزة في قلبه فلم يبدها. وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية، ومجالسهم من أعاليها عامرة، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة، وأنجمها بالهدى زاهرة. فلمّا خلت البطحاء من صناديدها استقبله بما أكنّ في نفسه.
والحاسد لا يغفل عن فرصته إلى أن يأتي الموت على رمّته، وما استقبل ابن عبّاس بذلك إلّا لمّا رأى عمر قدّمه على أهل القدم، ونظر إليه وقد أطاف به أهل الحرم، فأوسعهم حكما، وثقبوا منه رأيا وفهما، وأشبعهم علما وحلما.
فصل منه: وكيف يصبر من استكنّ الحسد في قلبه على أمانيه. ولقد كان اخوة يوسف حلماء، وأجلّة علماء، ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عمّا قدم في قلوبهم من الحسد ليوسف، حتّى أعطوا أباهم المواثيق المؤكّدة، والعهود المقلّدة، والأيمان المغلّظة، إنّهم له لحافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم.
فخالفوا العهود ووثبوا عليه بالظلم والقوة، وألقوة في غيابة الجبّ، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم، طمعا أن يخلو لهم وجه ابيهم وينفردوا بحبه، وظنوا أن الايام تسليه، وحبه لهم من بعد غمه يلهيه، فاسالوا عبرته واحرقوا قلبه. وكيف تقر اعين المحسودين بعد يوسف وقد ملكه الله خزائن الارض بصبره على اذى حساده ومقابلته اياهم بالعفو والمكافأة وحسن العشرة والمؤاخاة، بعد امكانه منهم كما اتوه محتارين رفدهم عليه خائفين وهم له منكرون، فاحسن رفددهم، واكرم قراهم، فاقروا له لما عرفوه بالاذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجدا لما وردوا عليه وفدا.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
29 مايو 2024
تعليقات (0)