المنشورات

تعلم التجارة والصيرفة افضل من عمل السلطان

فصل منه: ومن خصال العبادة وإن كانت كلّها راجحة فليس فيها شيء أردّ في عاجل، ولا أفضل في آجل من حسن الظنّ بالله تعالى وعزّ.
ثم اعلم أنّ أعقل النّاس السّلطان ومن احتاج إلى معاملته، وعلى قدر الحاجة إليه ينفتح له باب الحيلة، والاهتداء إلى مواضع الحجة. وما أقرب فضل الرّاعي على الرعية من فضل السّائس على الدابّة. ولولا السّلطان لأكل النّاس بعضهم بعضا، كما أنّه لولا المسيم لوثب السّباع على السّوام.
ودعني من تدريسه كتب أبي حنيفة، ودعني من قولهم: اصرفه إلى الصّيارفة؛ فإنّ صناعة الصّرف تجمع مع الكتاب والحساب المعرفة بأصناف الأموال، ولا تجد بدّا من حلّة السّلطان.
ودعني من قول من يقول: قد كانت قريش تجّارا؛ فإن هذا باب لا ينقاس ولا يطّرد. ومن قاس تجّار الكرخ وباعته، وتجّار الأهواز والبصرة، على تجّار قريش، فقد أخطأ مواضع القياس، وجهل أقدار العلل.
قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلّبهم في الأرحام البريئة من الآفات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويعبّيهم لكل جسيم، ويربّيهم لكل عظيم.
ولو علم هذا القائل ما كانت قريش عليه في التّحارة لعرف اختلاف السّبل، وتفاوت ما بين الطّرق. ولو كانت علّتهم في ذلك كعلّة تجّار الأبلّة، ومحتكري أهل الحيرة، لثلمت دقّة التجارة في أعراضهم ولنهك سخف التربّح من مروءاتهم، ولصغّر ذلك من أقدارهم في صدور العرب، ولوضع من علوّهم عند أهل الشرف. وكيف وقد ارتحلت أليهم الشّعراء كما ارتحلت الى الملوك العظماء، فأسنوا لهم العطيّة، ولم يقصّروا عن غاية، فسقوا الحجيج وأقاموا القرى لزوّار الله تعالى، وهم بواد غير ذي زرع. فلو أنّه كان معهم من الفضل ما يبهر العقول، ومن المجد ما تحرج فيه العيون، لما أصلح طبائعهم الشيء الذي يفسد جميع الأمة. ولقد أورث ذلك صدورهم من السّعة بقدر ما أورث غيرهم من الضّيق. ولو كانت سبلهم عند الملوك إذا وفدوا عليهم، أو وردوا بلادهم بالتجارات، سبل غيرهم من التّجّار لما أوجهوهم وقرّبوهم، ولما أقاموا لهم قرى الملوك وحبوهم بكرامة الخاصّ.
وإذا كانت قريش حمسا تنسّك في دينها، وتتألّه في عبادتها وكان مانعا.
لهم من الغارات والسّباء، ومن وطء النّساء من جهة المغنم، ولذلك لم يئدوا البنات ولا ولدت منهم امرأة غيرهم من جهة السّباء، ولا زوّجوا أحدا من العرب حتّى يتحمّس ويدين بدينهم. ولذلك لمّا صاروا إلى بناء الكعبة لم يخرجوا في بنائها من أموالهم إلّا مواريث آبائهم ونسائهم، خوفا من أن يخالطه شيء حرام، إذ كانت أرباح التجارات مخوفا عليها ذلك. فلما كانوا بواد غير ذي زرع ويحتاجون إلى الأقوات، وإقامة القرى، لم يجدوا بدا من أن يتكلّفوا ما يعيشهم ويصلح شأنهم، فأخذوا الإيلاف، ورحلوا إلى الملوك بالتّجارات. فهذا هو السبب.
فانظر كم بين علّتهم وعلّة غيرهم! فيسرّك بعد هذا أن يتحوّل ابنك في مسلاخ صالح الزّرازريشي، أو في طباع ابن بادام، أو في عقل ابن سامري.
فإن زعموا أنّ أصحاب السلطان بعرض مكروه فليعلموا أنّ كلّ مسافر فبعرض مكروه، وقد قال بعض الحكماء: «المسافر ومتاعه على قلت إلا من حفظ الله» ، يعني على هلاك.
وراكب البحر أشدّ خطرا، ومشتري طعام الأهواز أشدّ تهوّرا، ورافع الشّراع بعرض هلكة. والمتعرّض للملاحة والمعرّض نفسه للسّباع أقلّ شفقة.
وسكان الجزائر والسواحل أحقّ بالتعرّض، وأولى بالخوف. والمنهوم بالطعام الرديّ، والمدمن للشّراب أشبه بأصحاب التغرير، والمتباري في ذلك والمتزيّد منه أحقّ بتوقّع الحدثان وحوادث الأزمان، قد جرت عليه عادة الدهر وسيرة الأيام. وهذا كلّه أحقّ بالاهتمام.
وإن كنت إلى الإشفاق تذهب، وإلى إعطاء الحزم أكثر من نصيبه، وكيف دار الأمر فإنّ التاجر قد استشعر الذّلّ، وتغشّى ثوب المذلّة.
وصاحب السلطان قد تجاوز حدّ العزّ والهيبة. وإنما عيبه سكر السّلطان، وإفراط التعظيم. قد استبطن بالعزّ، وظاهر (بالبشر واستحكمت تجربته، وبعدت بصيرته حتّى عرف مصلحة كلّ مصر، وإصلاح كلّ فاسد، وإقامة كلّ معوجّ، وعمارة كلّ خرب.
ولا أعلم في الأرض أعمّ إفلاسا ولا أشدّ نكبة، ولا أكثر تحوّلا من يسر إلى عسر، ولا رأينا الجوائح إلى أحد أهدى منها إلى أموال الصّيارفة. فكيف يقاس شأن قوم تعمّهم المعاطب بشأن قوم أهل السّلامة فيهم أكثر، والنّكبات فيهم أقلّ.
وبعد هذا فإني أرى ألّا تستكرهه فتبغّض إليه الأدب، ولا تهمله فيعتاد اللهو.
على أنّي لا أعلم في جميع الأرض شيئا أجلب لجميع الفساد من قرناء السّوء، والفراغ الفاضل عن الجمام.
درّسه العلم ما كان فارغا من أشغال الرجال، ومطالب ذوي الهمم.
واحتل في أن تكون أحبّ إليه من أمّه. ولا تستطيع أن يمحضك المقة، ويصفي لك المودّة مع كراهته لما تحمل إليه من ثقل التأديب عند من لم يبلغ حال العارف بفضله.
فاستخرج مكنون محبّته ببرّ اللّسان، وبذل المال. ولهذا مقدار من جازه أفرط. والإفراط سرف. ومن قصّر عنه فرّط، والمفرّط مضياع.
ولا تستكثرنّ هذا كلّه فإنّ بعض النّعمة فيه تأتي على أضعاف النعامة، والذي تحاول من صلاح أمر من تؤمّل فيه أن يقوم في أهلك مقامك، وإصلاح ما خلّفت كقيامك، لحقيق بالحيطة عليه، وبإعطائه المجهود من نفسك.
وقال زكريا عليه السلام: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.
فعلم الله تبارك وتعالى، فوهب له غلاما، وقال الله عزّ وجلّ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى.
اعلم أنّه أعطاك ولدا عبرة عين العدوّ، وقرّة عين الصديق الوليّ.
فاحمد الله وأخلص في الدّعاء، وأكثر من الخير إن شاء الله تعالى.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید