المنشورات

لا ينبغي تعميم الحكم على جميع الوكلاء

فصل منه: قد فهمنا عذرك وسمعنا قولك، فاسمع الآن ما نقول:
اعلم أنّ الوكيل، والأجير، والأمين، والوصيّ، في جملة الأمر، يجرون مجرى واحدا. فأيش لك أن تقضي على الجميع بإساءة البعض. ولو بهرجنا جميع الوكلاء وخوّنّا جميع الأمناء، واتّهمنا جميع الأوصياء وأسقطناهم، ومنعنا الناس الارتفاق بهم، لظهرت الخلّة وشاعت المعجزة، وبطلت العقد وفسدت المستغلّات، واضطربت التّجارات، وعادت النّعمة بليّة والمعونة حرمانا، والأمر مهملا، والعهد مريجا.
ولو أنّ التّجّار وأهل الجهاز صاحبوا الجمّالين والمكارين والملّاحين، حتّى يعاينوا ما نزل بأموالهم في تلك الطّرق والمياه، والمسالك والخانات، لكان عسى أن يترك أكثرهم الجهاز.
فصل منه: وقد قال الله عز وجل: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
، وقال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
وقال: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
وقال يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم لفرعون وفرعون كافر:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
وقالت بنت شعيب في موسى بن عمران: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
: فجمع جميع ما يحتاج إليه في الكلمتين.
وفي قياسك هذا إسقاط جميع ما أدّبنا الله به، وجعله رباطا لمراشدنا في ديننا، ونظاما لمصالحنا في دنيانا.
والذي يلزمني لك أن لا أعمّهم بالبراءة، والذي لزمك أن لا تعمّهم بالتّهمة، وأن تعلم أنّ نفعهم عامّ، وخيرهم خاصّ.
وقالوا: مثل الإمام الجائر مثل المطر، فإنّه يهدم على الضعيف، ويمنع المسافر.
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- «حوالينا ولا علينا» .
والمطر وإن أفسد بعض الثّمار، وأضرّ ببعض الأكرة فإنّ نفعه غامر لضرره.
وليس شيء من الدّنيا يكون نفعه محضا، وشرّه صرفا. وكذلك الإمام الجائر، وإن استأثر ببعض الفيء، وعطّل بعض الحكم، فإنّ مضارّه مغمورة بمنافعه.
قالوا: وكذلك أمر الوكلاء والأوصياء والأمناء، لا تعلم قوما الشرّ فيهم أعتم ولا الغشّ فيهم أكثر من الأكرة، وما يجوز لنا مع هذا أن نعمّهم بالحكم مع إنّ الحاجة إليهم شديدة، ونزع هذه العادة [وهذا] الخلق منهم أشدّ.
فصل منه: وأنّا أظنّ أنّ الذنب مقسوم بينك وبين وكلائك. فارجع إلى نفسك فلعلّك أن ترى أنّك إنّما أتيت من قبل الفراسة، أو من قبل أنّك لم تقطع لهم الأجرة السنيّة، وحملتهم على غاية المشقّة في أداء الأمانة وتمام النّصيحة.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید