المنشورات

النبيذ يجمع الندماء ويرفق بالسكارى

وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظّرفاء، ولا أشدّ تألّفا للأدباء، ولا أجلب للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين، ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم، ويطول به مجلسهم، منه.
وإنّ كلّ شراب كان حلا ورقّ، وصفا ودقّ، وطاب وعذب، وبرد ونقخ، فإنّ استطابتك لأوّل جرعة منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروها وبليّة، إلا النبيذ، فإنّ القدح الثاني أسهل من الأوّل، والثالث أيسر، والرابع ألذّ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النّوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلّبا، وأخذه بالرأس تعسّفا، حتّى يميت الحسّ بحدّته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظّته، ولا يسري في العروق لغلظه، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصّميم.
ولا والله حتّى يغازل العقل ويعارضه، ويدغدغه ويخادعه، فيسرّه ثمّ يهزّه، فإذا امتلأ سرورا وعاد ملكا محبورا، خاتله السّكر وراوغه، وداراه وماكره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السّكر، ويعتسف الداذيّ، ويفترس الزّبيب؛ ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم،وتزيين الصّمت.
وهذه صفة شرابك إلّا ما لا نحيط به، ونعوته تتبدّل إلّا ما يقبح منها الجهل به.
وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل، وتمشّيها في العظام ولونها الغريب؛ وأخذ برد الماء ورقّة الهواء، وحركة النار، وحمرة خدّك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعت، وبياض عارضيك إذا ضحكت.











مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید