المنشورات

منافع النبيذ

وسألت أن أقصد فى ذلك إلى الإيجاز والاختصار، وحذف الإكثار.
وقلت: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنيّة الممدوحة، فما تقول فيما حسن من الأنبذة صفاه، وبعد مداه، واشتدّت قواه، وعتق حتّى جاد، وعاد بعد قدم الكون صافي اللّون، هل يحلّ إليه الاجتماع، وفيه الاكتراع، إذ كان يهضم الطّعام ويوطّىء المنام. وهو في لطائف الجسم سار، وفي خفيّات العروق جار، ولا يضرّ معه برغوث ولا يعوض ولا جرجس عضوض.
وقلت: وكيف يحلّ لك ترك شربه إذا كان لك موافقا، ولجسمك ملائما. ولم لا فلت: إنّ تارك شربه كتارك العلاج من أدوإ الأدواء وإنّه كالمعين على نفسه إذا ترك شربه أفحش الدّاء. وأنت تعلم أنّك إذا شربته عدّلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السّقم صحّة، ومن حلول العجز قوّة، ومن الكسل نشاطا، وإلى اللّذّة انبساطا، ومن الغمّ فرجا، ومن الجمود تحرّكا، ومن الوحشة أنسا، وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحاجة خير ناصر. يترك الضّعيف وهو مثل أسد العرين يلان له ولا يلين.
وقلت: الجيّد من الأنبذة يصفّي الذّهن ويقوّي الرّكن، ويشدّ القلب والظّهر، ويمنع الضّيم والقهر، ويشحذ المعدة، ويهيّج للطعام الشّهوة، ويقطع عن إكثار الماء الذي منه جلّ الأدواء، ويحدر رطوبة الرّأس، ويهيّج العطاس، ويشدّ البضعة، ويزيد في النّطفة، وينفي القرقرة والرّياح، ويبعث الجود والسّماح، ويمنع الطّحال من العظم، والمعدة من التّخم، ويحدر المرّة والبلغم، ويلطّف دم العروق ويجريه، ويرقّه ويصفّيه، ويبسط الآمال، وينعم البال، ويغشّي الغلظ في الرّثة، ويصفّي البشرة ويترك اللّون كالعصفر، ويحدر أذى الرّأس في المنخر، ويموّه الوجه ويسخّن الكلية، ويلذّ النّوم ويحلّل التّخم، ويذهب بالإعياء، ويغذو لطيف الغداء، ويطيّب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النّفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكّن الرّوعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصّلب بالإنشاط للجماع، وفصول المعدة بالهراع، ويشجّع المرتاع ويزهي الذّليل، ويكثّر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسلّي الحزن، ويجمع الذّهن، وينفي الهمّ، ويطرد الغمّ، ويكشف عن قناع الحزم، ويولّد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحثّ على الصّبر، ويصحّح من الفكر، ويرجّي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس وحتّى إن عزّ لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقّي الصّدر من الخصومة، ويزيد في المساغ، وسخونة الدماغ، وينشّط الباه حتّى لا يزيّف شيئا يراه، وتقبله جميع الطّبائع، ويمتزج به صنوف البدائع، من اللّذّة والسّرور، والنّضرة والحبور. وحتّى سمّي شربه قصفا، وسمى فقده خسفا. وإن شرب منه الصّرف بغير مزاج، تحلّل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسّموم، ويفتح الذّهن، ويمنع الغبن، ويلقّن الجواب، ولا يكيد منه العتاب، به تمام اللذّات، وكمال المروءات. ليس لشيء كحلاوته في النّفوس، وكسطوته في الجباه والرّوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمّر الألوان، ويرطّب الأبدان، ويخلع عن الطّرب الأرسان.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید